حين يعرف ابن جني اللغة بأنها "أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم"، فإنه يؤكد على الطبيعة السمعية للغة في أصل نشأتها، ويشير – بطريقة غير مباشرة – إلى أن الصوت من أوائل ما يثير الإنسان، وذلك بدهي عند تخيل حياة الإنسان الأول، الذي كان يسمع أصوات الحيوانات وعناصر الطبيعة، فيخاف من بعضها، ويألف بعضها الآخر، ويطرب لأصوات أخرى، وربما حاول تقليد بعض هذه الأصوات، مما يعيدنا إلى سمعية اللغة في أصلها الأول.

وإذا كان الإنسان يطرب لبعض أصوات الطبيعة، كخرير الماء، وزقزقة العصافير، وهديل الحمام، فقد هداه ذلك إلى النغمات والموسيقى والإيقاع، التي باتت العلامة الفارقة بين ما يقوله شعرا، وما يقوله نثرا، مما يجعل الجانب السمعي ركنا أساسا قامت عليه القصيدة، فضلا عن أن الإنسان يستطيع أن يدرك عن طريق السماع كثيرا من الأفكار التي لا يدركها بالبصر، مما يعني أن السمع يعوض عن النظر عند تعلق المحسوس بالعقل والفكر والإبداع، ودليل ذلك أن فقدان البصر، لا يحول دون التعلم والتفوق في مجالات كثيرة، بينما يكون فقدان السمع حائلا دون إدراك كثير من الأفكار، ومعيقا عن مواكبة الوعي الإنساني، وربما كان هذا سببا في غلبة تقديم السمع على البصر في القرآن الكريم، حتى انقسم المفسرون إلى فريقين: أحدهما يرى فضل البصر على السمع، والآخر يرى فضل السمع على البصر، واسترعى هذا انتباه الباحثين في الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، فذهبوا يعللون – علميا - غلبة تقديم السمع على البصر في القرآن الكريم.

أقول هذا كله، لأصل إلى أن الصوت من جوانبه كلها، صورة عاكسة لداخل الإنسان؛ فعندما تسمع صوت إنسانٍ ما، وتتأمل نبرات صوته، وطريقة أدائه للكلمات، وارتفاع صوته وانخفاضه، بل والألفاظ التي يختارها اختيارا، سواء أكان اختياره ذاك للإساءة، أم للتودد، فإنك تستطيع أن تحكم على أخلاقه.

وعليه، فإن الاستماع إلى مسؤول خدمي ما، وإلى طريقته في التخاطب مع المحيطين به، سواء أكانوا موظفين، أم مراجعين، أم إعلاميين، يمكن أن يكون طريقا إلى الحكم عليه، من حيث: احترامه للناس، أو عدمه، ومن حيث: صدقه، أو كذبه، ذلك أن الجرس الصوتي للحروف والألفاظ ذو دور مهم في الإيحاء؛ لأن هناك علاقة بين جرس الألفاظ، والصورة الذهنية المتشكلة عنها في سياقاتها، وهذه الرؤية مؤسسة على كون اللغة أصواتا.

المسؤول الذي يملأ معجمه بألفاظ التعالي والغطرسة، ويتكئ على حروفها اتكاء عند كل تصريح، وفي كل حديث، كاذب.. كاذب.. كاذب.. وهو مُصدّق ـ على الدوام ـ عند البسطاء، بينما الأرجح أن أهدافه الظاهرة التي يحرص على إعلانها، ليست سوى غطاء يستر أهدافا خفية، ولغته ذات الجرس العالي، والمعاني المتعالية، ليست سوى "ترس" يحتمي به من القادرين على كشفه.

حمى الله وطننا ومجتمعنا من المستترين خلف أصواتهم.