العرض والطلب نظرية اقتصادية عرفناها في الواقع قبل أن ندرسها أو أن نقرأها في الكتب الاقتصادية، لكن هذه القاعدة لا تعمل للأسف في كثير من قضايانا الشائكة لأننا دائما نريد أن نتعامل مع رأس الجبل الجليدي الذي نراه ولا نريد أن نغوص ونتعرف على عمق وجذور هذا الجبل، فيأتي تشخيصنا سطحياً وعلاجنا عبارة عن مسكنات لا أكثر.

الجهات الرسمية تقول إن هناك جبلا شاهقا من البطالة المستفحلة تضرب أطنابها في كل بيت وعلى كل رصيف وإن البلد بكامله على شفا حفرة من الأزمات المترتبة على البطالة، وفي المقابل وعلى السفح المقابل لجبل البطالة هناك جبل آخر وهو تدني قيم وثقافة العمل لدينا وأن فرص العمل متوفرة وكبيرة حسب بعض الجهات الحكومية وغيرالحكومية، وتؤكد هذه الجهات أن الفرص الوظيفية متوفرة لكن لا أحد يتقدم لها من هؤلاء العاطلين وأن من يتقدمون لها ليسوا على درجة من الجدية في العمل.

نحن شعب لا يحب العمل هكذا يقولون. فهل هذا يعني عدم صدقية أحد الطرفين؟ أم إن هناك حلقةً مفقودة بين ضفتي الجبلين فشكلت نهراً من التيه يفصل الجبلين المتجاورين حد الالتصاق والمتضادين حد السماء؟

الظاهرة الأخرى ذات الصلة بهذا السياق والتي تثير الاستغراب في حدة حضورها مجتمعياً ورسمياً وإعلامياً، هي ظاهرة العنوسة المتفاقمة على سفحي جبل العزوبية والعنوسة. فالطرفان يرغبان بالزواج، لكن حسب متطلبات العصر المادي. كم هائل من الرجال الراغبين بالزواج لكنهم لا يستطيعون إلى ذلك سبيلا، بسبب أنهم وعلى سفوح الجبل المقابل لا يجدون قبول الطرف الآخر لأسباب مادية وحضارية. وكم هائل من العوانس اللاتي يرغبن بالزواج ولكن ليس بمواصفات الطرف الآخر المادية والحضارية. و كلا الطرفين يطالب بمواصفات مستحدثة ومستجدة فرضتها متغيرات حياتية شاملة حتى القيم الثقافية. فلا يمكن أن يستثنى الزواج والحياة الزوجية من كل ما يعصف بالمجتمع وقيمه من متغيرات من الداخل والخارج. وأن هذا الرفض ليس تشاوفا أو عنجهية أو مبالغة أو حتى رفضا للفرد بقدر ما هو تغيير شامل لكل منظومة الحياة المعاصرة وخاصة التغيرات المادية.

لذلك يوجد على ضفتي ظاهرة العزوبية أرقام هي المشكلة وهي الحل. فلماذا لم تخضع هذه الظاهرة لقيم العرض والطلب بالمنظور الاقتصادي للظاهرة؟ فهل هذا يعني عدم صدقية أحد الطرفين أم أن هناك حلقة مفقودة أخرى حالت وتحول دون جلاء الصورة.

الظاهرتان من المنظور الاقتصادي (العرض و الطلب) والذي يعني تأثر الطلب بالعرض وتأثر العرض بالطلب، لم تتأثرا تأثرا ملموسا، فلم تتحسن ثقافة العمل لدى العاطلين عن العمل رضوخا واستجابة لشح الفرص الوظيفية، فبقيت البطالة مرتفعة وثقافة العمل متدنية. ولم يحل مفهوم المهنة بديلا عن مفهوم الوظيفة. ولم ينخرط الجيل الجديد في ثقافة جديدة، خلافا للأجيال الماضية في تقبل وممارسة أعمال ومهن مرفوضة. ولم نجد كثيرا من الأجيال الجديدة تكافح في خلق أعمالها الخاصة بها أو حتى تتقبل العمل خارج مدنها.

من ناحية أخرى، لم تتأثر الأعداد الكبيرة لمن هم غير متزوجين من الرجال والنساء، بمعنى أن أعداد غير المتزوجات يقابلها أعداد مماثلة أو قريبة منها بين غير المتزوجين وذلك رضوخا وانسجاما مع الظروف التي يعيشها ويعايشها الطرفان من تغيرات مادية وحياتية وثقافية واجتماعية. فبقيت الأعداد مرتفعة لدى الطرفين.

وفي كلتا الحالتين؛ البطالة والعنوسة، كانتا الحل الجزئي دائما لدى من هو غير مواطن. فكان حل البطالة الناشئة عن تدني ثقافة العمل بين المواطنين هو توظيف غير المواطنين . وكان الحل لمشكلة العنوسة لدى طرفي المعادلة هو بفتح الزواج من الخارج. وقد جاء العنصر غير السعودي في كلتا الحالتين (البطالة والعنوسة) بحلول وبمشكلات في نفس الوقت. فأصبح (غير السعودي في كلتا الحالتين) شماعة نعلق عليه عجز تفكيرنا وقصور رؤيتنا لجذور المشكلة الثقافية والاجتماعية. لقد تحولت وزارات وأجهزة بكاملها لمطاردة غير السعوديين وملاحقتهم، بدلا من أن تكرس جهدها لإيجاد حل لرفع مستوى ثقافة العمل لدى المواطنين. لقد أضاعوا وقتا طويلا وأموالا طائلة بسبب أنهم صدقوا فزاعة غرسوها في أذهان الرأي العام وصناع القرار. وهاهم الآن وبعد كل الجهود والأموال والسنوات الطويلة، لم يتحقق هدف من أهدافهم، أو نتقدم للأمام في ردم الهوة بين الثقافة المادية والثقافة اللامادية لدى أغلب شرائح المواطنين، فكانت الضحية هي أخلاقيات المجتمع.

لماذا لا نستبدل شعار سعودة الوظائف، (والذي رفع منذ رفعت الخطوط السعودية شعار نعتز بخدمتكم)، لماذا لا نستبدل شعار (سعودة) الوظائف بــ(نسونة) الوظائف، علها تتسبب بسعودة الزواج، فهذا حل اقتصادي خاصة أن نتائج آخر تعداد لسكان المملكة أظهرت تساوي عدد الذكور والإناث تقريبا. وميزة هذا الشعار أنه يقدم حلاً اجتماعيا ثقافيا بجانب الحل الاقتصادي و لا يقتصر على الحلول الاقتصادية البحتة فقط.