لا يخفى على أي مشتغل أو مهتم باللغة العربية، الترهلُ الذي نعيشه اليوم في وطننا العربي نحن لا اللغة العربية؛ فكما هو معروف أن ثراء اللغة وغناها الشديد بالمفردات وتعدد الدلالات ميزة تمتاز بها لغتنا الجميلة، فقد احتفظت بالكثير وفقدت أيضا الكثير مما لم يدون في فتراتها التي غلبت عليها الشفهية، ولأن معدل ثروة الإنسان من مفردات لغته قد يصل إلى عشرة آلاف مفردة يبقى الكثير الذي نجهله من لغاتنا الأم، خاصة وقد عشنا عزلة لغوية غاب عنا فيها التدوين بعد سقوط بغداد وانحصار الثقافة وانعزال المدن والقرى والبادية العربية عن بعضها، حتى جاء العصر الحديث مزامنا الاستعمار الغربي والحركات الدينية التي كانت نتيجة طبيعية جدا لتلمس حاجة الناس لكسر العزلة بالاتصال بمصدرين مجهولين لهم ومهمين هما: الأول: تراثهم الأصيل من دين وأدب، الذي أصبح مجهولا لهم، والثاني: الاتصال مع الغرب الذي قطعا أشواطا بينما نمنا في حلبة السباق الحضاري؛ إلا أن المعضلة أننا نفتقر حينها للغة نتواصل بها مع المنبعين!.
مرت السنوات وكان وما يزال الصدام قائما بين فكرة التغريب والحاجة الماسة للانفتاح على العالم وتعلم العلوم بلغة عربية سليمة، وثارت بعض الصراعات حول هذه القضية حتى وصلنا إلى اليوم، بعد مئتي سنة من بداية لحظات الوعي، وما نزال لا نعي كيف نتواصل مع العالم بلغة سليمة!.
لو تأملنا لغة الخطابة في المساجد لوجدناها تمر عبر تشبيهات واستعارات من نمط "المستنقعات الآسنة، وأكل عليها الدهر وشرب" وغيرها مما كان سائغا زمنا، لكن يستحيل أن يفهمه محدود الثقافة والطفل والعامل غير العربي الذين يصلون الجمعة في مسجد الحي أو في المسجد الحرام؛ مما يحيل الخطابة للإبهام بدل الإفهام الذي هو وظيفتها الأصلية!.
والسبب انغلاق لغة الدارسين للدين واللغة العربية على لغة القدماء بمفرداتها وسياقاتها التي تجاوزتها فصاحة العصر!.
نموذج آخر في التعليم: من درجات تقييم المعلم والمعلمة وظيفيا إجادة الحديث باللغة العربية.. من يستطيع أن يحول هذه المهارة إلى درجات؟ وما ميزان الذهب الذي توزن به لغير معلمي اللغة العربية؟ أعني ما معنى إجادة، وكيف يوصل إليها؟!
في التعميمات الحكومية التي تطالعنا يوميا صيغ تشبه لعبة المتاهات؛ أذكر تعميما جاء من مندوب منطقة تعليمية قبل ما يقارب العشرين عاما يقول ما معناه: "لا يصح للمعلمات التمتع بيوم إجازة واحد مرة في الشهر من المستوصفات الأهلية كما هو مسموح به في التعميم رقم ..."؛ و كان يريد باختصار أن يوقف العمل بنظام رسمي معتمد من الدولة! لست أناقش تزمته وتجاوزه للنظام لكن كانت الصيغة مضحكة كشفت جهله قبل عدوانه!.
من قضايا الخطابات الرسمية التي تسمى تعاميم. أنها تستهلك صفحات أحيانا لتقول عبارة مثل طلب تفعيل مناسبة أو كتابة بحث أو الاحتفال بيوم الوطن مثلا.. هذه الخطابات حتى تؤدي وظيفتها يفترض أن تصاغ بعيدا عن ترهل عبارات مثل بناء على.. المعنون بتاريخ ... والقاضي... وإشارة إلى ... يمكننا أن نصيغ خطابا مباشرا مثلا نقول فيه "أما بعد على جميع المدارس الاحتفال بمناسبة .... بتاريخ ... والسلام "، ثم نرسله إلى الدوائر الرسمية ذات الاختصاص، وتترك التفاصيل في نهاية الخطاب لمن يرغب في معرفتها على شكل رابط إلكتروني، أليست فكرة مدهشة وبسيطة؟!
انظروا كيف تتعامل عقولنا مع عبارات بسيطة وواضحة نفهمها إعلاميا في الأخبار تسبق بكلمة عاجل، بينما قد يفوتنا ما أفاضت فيه نشرة الأخبار المفصلة!
من الصيغ التي قادها ارتباكنا اللغوي إضافة عبارات مثل "فلان المغفور له بإذن الله"، وهي تخلص من القطع بالمغفرة مع أن المغفرة بيد الله أولا وأخيرا؛ لكن هذه العبارة كان كافيا استبدالها بالأصل وهو "فلان غفر الله له"!
اللغة والعبارات المتناقضة على واجهة المحلات يطول الحديث عنها خاصة لو رافقتها ترجمة!
الكتابة الصحفية التي نحن الآن في دائرتها، تقترب أحيانا من الطلاسم، وتحلق أخرى في فضاء الإبداع، وتنزل ثالثة إلى ما يشبه الكلام المحكي أو التعليقات الضاحكة عليها، التي تعتمد حرفا وتضيع لغته والسبب نصيبنا من التعبير الجيد، والتمكن من اللغة!
الأمثلة لا تنتهي لكن دعوني ألخص المشكلة بالعودة إلى عصور التميز اللغوي، ولنأخذ عصرين براقين: العباسي والأندلسي؛ في هذين العصرين نجد أن الإبداع قام على دعم ثقافي ومادي كبيرين لتعلم اللغة وتعليمها، وتوفير الرفاهية للكتاب، ووصولهم إلى مراتب الوزارة كما فعل البرامكة الفرس، الذين فاقوا بعض العرب في مهارتهم اللغوية؛ وكما فاق سيبويه في عصره عربا أقحاحا، لم ينقلوا من علم العربية ما نقل وتعلم منهم!.
اللغة بحاجة إلى دعم مادي تقوم به الحكومات والمؤسسات المعنية بخدمة لغتنا، هذا الدعم يجعل غير العرب ـ فضلا عنا ـ يسارعون لتعلمها والتفوق بها كما تفوق المسلمون غير العرب في الماضي الذي نتباهى به!
الأمر الأهم، أن يتم توظيف كتاب مميزين في كل دائرة حكومية تتعامل مع إصدار القرارات أو تقديم دورات لغة مكثفة لهم فكلما ارتفعت أهمية الجهات الرسمية ارتفعت الحاجة لوجود كاتب مجيد أو أكثر وما أحوجنا!.