عرفته حينما كان مديرا للمخابرات الحربية، وخلال "عام الإخوان" الذي حكمت الجماعة خلاله مصر، عبر ربيبها الرئيس السابق محمد مرسي، وخلفه مكتب الإرشاد وجوقة المستشارين الذين حاصروه. خُضت مناقشات ساخنة سواء عبر الفضائيات أو الندوات وصولا إلى مواقع التواصل الاجتماعي بالإنترنت، متمسكا برأيي بعدم صحة ما توهمه كثيرون، سواء من عوام المصريين أو النخبة، بأن وزير الدفاع حينها عبدالفتاح السيسي من الموالين للإخوان، الأمر الذي كنت أنفيه مستندا لمعرفتي بسيرة الرجل وشخصيته، وما توافر لدي من معلومات شكلت مأزقا بالإفصاح عنها حتى أقنع هؤلاء، أو إعلاء المصلحة العامة بالتكتم، وهو ما اخترته حينذاك، ولعله كان الاختيار الحكيم بتوفيق الله تعالى.

مياه كثيرة فاض بها النيل، حملت الإخوان ورئيسهم خارج المشهد، بعد مسار "ثورة التصحيح" في 30 يونيو، وبعدها بأيام أطل السيسي ليُعلن تأبين عهد الإخوان، ويعلن باقتضاب "خارطة الطريق"، واكتفيت بابتسامة صامتة حين كنت ألتقي الذين ظنوه مواليا للإخوان، وبعدها ارتفعت شعبية الجيش المصري بالتوازي مع شعبية قائده الذي أعدّه ومازال يراه الملايين "الأمل المنشود" لإعادة مصر إلى هويتها الحضارية، والتصدي لمحاولات "أخونة الدولة"، كما التزم الرجل الصمت بانضباط العسكري المحترف، فجاءت كل كلمة وخطوة محسوبة بدقة، خاصة في ظل مناخ "سيولة وضبابية"، بينما انطلقت قوات الجيش والشرطة لاسترداد سيناء التي كادت تفلت من السيطرة بأنفاق غزة، ومعسكرات تدريب تنظيمات مسلحة أسسها الإخوان وتكفلوا بتسليحها، مستغلين انفلات الحدود المصرية ـ الليبية لتمتلك أسلحة لا تحوزها سوى الجيوش النظامية من ترسانة القذافي المكدسة.

بصدق يحاسبني عليه الله تعالى، لم يكن يعتزم السيسي الترشح لانتخابات الرئاسة، لكن تصعيد الإخوان ميدانيا وترويع المجتمع وتنفيذ عمليات إرهابية كالتفجيرات والاغتيالات، فضلا عن ضغوط شعبية رصدتها الأجهزة السيادية، كلها تضافرت لتجبره على اتخاذ قرار الترشح، والتزم الصمت طويلا حتى كانت إطلالته الأخيرة مرتديا الزي العسكري، ليودعه بعد عقود.

مجددا التزم السيسي الصمت حتى بدأت رسميا مرحلة الدعاية الانتخابية، وكان لزاما عليه مخاطبة الناس، فأجرى حوارا مع اثنين من مقدمي البرامج المشهورين، وأشفقت عليه؛ لأنه ابن "مدرسة الصمت"، لكن هذه الآليات ليست مناسبة لمرشح رئاسي، فتابعت حواره، بعين الناقد لإجراء "تحليل مضمون" ورصد ردود الفعل شعبيا ونخبويا، وأؤكد أنه بهرني، فلم أكن أتوقع نجاحه بإدارة الحوار مع اثنين ينتميان إلى مدرسة الصوت العالي.

تحدث السيسي ليفرض على المحاورين التزام الهدوء والرصانة بخبرة "الدهاء الناعم"، وسحب منهما دفة الحوار صوب الوجهة التي يريدها، فيصمت حينا ويتحدث باقتضاب حينا آخر وباستفاضة أحيانا، لكن في المحصلة النهائية أجاب عن التساؤلات التي تراود المصريين والعرب ببراعة "رجل الدولة" وبساطة "ابن البلد"، الذي نشأ بحي "الجمالية" ذي الطبيعة بالغة الخصوصية، فيضم سياحا عربا وأجانب، ويقطنه مسلمون ومسيحيون، ومن تبقى في "حارة اليهود"، وتتعانق فيه أشهر المساجد التاريخية مع أقدم كنائسها في تناغم حضاري يعكس روح مصر السمحة، ويبعث رسالة اطمئنان للجميع، مفادها إعلاء قيمة المواطنة والقانون.

ترجم السيسي انضباطه السلوكي والأخلاقي وما اصطلح على وصفه "التدين الشعبي"، أي الالتزام بالفروض وروح الإسلام دون تحزب لجماعات وتبني مفاهيم متشددة، بل عدّ أن الخطاب الديني المتعصب خلال العقود الماضية أساء كثيرا للإسلام، وحين استوقفه المذيع ليستبدل كلمة "الإسلام" بالمسلمين، تمسك السيسي بشجاعة الإصرار على أن الإساءة طالت الإسلام؛ لأن الآخرين يرونه في سلوك معتنقيه، ولا يعنيهم إن كان هذا الشخص منحرف فكريا أو ذاك متعصبا لا يمثل أكثر من مليار ونصف مسلم، فهناك تربص بالإسلام تعاظمت منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 حتى تبلورت "حالة الإسلامفوبيا" في المحافل الدولية.

وتجلى انضباطه الفكري في إنصاته باهتمام للأسئلة، وحينما كان يقاطعه أحد محاوريه يُبدي اعتراضه بأدب جمّ مطالبا باستكمال فكرته ليظل متحكما بالاتجاه الذي يشير لذهن مرتب، كما اقتصد في استخدام "لغة الجسد"، لكنه رفع صوته وضرب الطاولة مرة حين تطرق الحديث لممارسات "الإخوان"، مؤكدا أنه لن يسمح ـ حال فوزه ـ بترويع المواطنين وأن الجماعة ستبقى محظورة والتعايش معها أصبح مستحيلا، واحتد ثانية حين تحدث المحاور عن "حكم العسكر" قائلا: "مش هاسمحلك تقول كلمة العسكر مرة تانية"، مما يؤكد وعيه بجذور مصطلح "العسكر" التي تُطلق على قوات الغُزاة والاحتلال وليس الجيوش الوطنية.

نعود للحوار الذي تابعه المصريون على تنوع مشاربهم لدرجة بدت معها القاهرة وقت الحوار هادئة من صخبها، لنرصد مسحة خجل كانت تنتابه حين يجيب عن أسئلة تتعلق بالسيدة الفاضلة زوجته التي تحدث عنها بمودة واحترام، ووصفها بشريكة العمر.

وحين تطرق للشأنين الإقليمي والدولي كانت العاصمة السعودية الرياض محطة مهمة في تاريخه وحاضره ومستقبله، فقد شغل منصب الملحق العسكري بالسفارة المصرية بالسعودية، التي أكد أنها ستكون الدولة الأولى التي سيزورها حال فوزه، كما أشاد بتقدير بمواقف "خادم الحرمين" الداعمة لمصر خلال محنتها على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وكذلك لدى حديثه عن موقف دولة الإمارات وحكامها.

أما عن علاقات مصر بواشنطن وموسكو، فأكد أنه ليس بصدد تحولات درامية، لكن الأمر يقتصر على "توازن العلاقات" بالقدر الذي يخدم المصالح المصرية والعربية، كما كان صمته بليغا حينما سئل عن صفقة الأسلحة الروسية، ولم يرد مكتفيا بابتسامة تؤكد صحة وصف مجلة "نيوزويك" الأميركية بأنه "الجنرال الهادئ" الذي تطرق لحزمة تحديات تواجه مصر برؤية تتسم بالواقعية السياسية، لكن لم تتح له فرصة شرح برنامجه باستفاضة، وعلمت أنه سيتحدث تفصيليا قريبا عبر التلفزيون الحكومي، الذي يمنحه ومنافسه فرصة متكافئة، وغاية القول إنه ترك انطباعات إيجابية لدى غالبية المصريين تبشر وتؤشر لأنه صار على وشك "الوشك".