دعت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد "نزاهة" الجهات الحكومية، إلى ضرورة تطبيق العقوبات المقررة في نظام تأديب الموظفين، وذلك "ضمن برنامجها التوعوي والتثقيفي لعموم الموظفين، مما يحقق حماية النزاهة ومكافحة الفساد بشتى صوره وأشكاله وأساليبه".
وقد تضمن بيان "نزاهة" سالف الذكر، مجموعة من المواد والضوابط الواردة في نظام تأديب الموظفين، ومنها المادة "31"، التي تنص على أن "يعاقب تأديبيا كل موظف ثبت ارتكابه مخالفة مالية، أو إدارية .."، وكذلك المادة "32"، التي توضح أشكال العقوبات التي يجوز أن توقع على الموظف، التي منها: الإنذار، اللوم، الحسم من الراتب، والحرمان من العلاوة، وأخيرا الفصل من الخدمة.
وبالرغم من أهمية ما تدعو إليه "نزاهة"، وكذلك أهمية العقوبات الإدارية التي تهدف إلى زجر الموظف عند ارتكابه مخالفة عن العودة للفعل المعاقب عليه، وردع غيره عن ارتكاب نفس الفعل، إلا أن هناك وجها قبيحا لهذه العقوبات، لم تتطرق وتلتفت إليه "نزاهة" مع أن هذا الوجه من أخطر أشكال وأوجه الفساد في الجهات الحكومية.
فبعض الجهات الحكومية تستخدم العقوبات الإدارية الواردة في نظام تأديب الموظفين كوسيلة للانتقام من الموظفين وليس لزجرهم، فضلا عن استخدام عقوبات إدارية أخرى مبطنة تفننت هذه الجهات في أشكالها ووسائلها دون رادع نظامي يمنعهم من هذا السلوك المشين.
فماذا نتوقع على سبيل المثال من شخص يعاني من مرض أو خلل عقلي أو مرض نفسي، ويعطى سلاحا أو حجرا؟، لا شك أنه سوف يستخدم هذا السلاح في إيذاء من يواجهه، كذلك بالنسبة لبعض الرؤساء والمديرين الذين يستخدمون سلطاتهم في إيذاء مرؤوسيهم الذين يشكلون خطرا على مصالحهم الشخصية في ظل حماية الأنظمة والقوانين!.
فإذا كان نظام تأديب الموظفين لم يحدد أنواعا معينة من الأعمال أو التصرفات التي تعد مخالفات، وبالتالي تستوجب توقيع العقوبات على مرتكبيها، بل ترك الأمر مطلقا؛ كي يشمل "كل تصرف يتعارض مع الأوامر الدينية أو القواعد الاجتماعية أو الواجبات الوظيفية، مثل عدم الانتظام في العمل إما بالغياب الكامل عن الدوام وإما بالتأخر عن بدايته أو الخروج خلاله أو قبل نهايته دون عذر مشروع أو إجازة أو إذن رسمي".
وعلى هذا الأساس، فإن النظام جعل للرئيس الإداري سلطة تقديرية غير مقيدة في تطبيق العقوبات على الموظفين، كما تضمن الإجراءات النظامية التي يجب اتخاذها قبل تطبيق هذه العقوبات، ومن ذلك على سبيل المثال: قيام الرئيس المباشر للموظف برصد المخالفات، والرفع للمسؤولين باقتراح إحالة الموظف المخالف للتحقيق ومن ثم توقيع العقوبة المناسبة عليه.
فإذا أراد الرئيس أو المدير الإداري الإيقاع بموظف ما، فإنه يتم توجيه الرئيس المباشر لهذا الموظف بشكل شفوي بالتسلط عليه، فيقوم هذا الرئيس بتكليف الموظف بأعمال كبيرة تفوق طاقته مع وضع جدول زمني قصير لإنجازها، كما قد يكلفه أيضا بأعمال قد تخرج كلية عن تخصصاته ومؤهلاته، أو يتم تكليفه بأعمال هامشية بقصد إهانته، ثم يقوم هذا الرئيس بمنع الاستئذانات و الإجازات بجميع أنواعها "اضطراري، مرضي، اعتيادي".
ونتيجة لهذه الممارسات، فإنه من المتوقع من الموظف الرفض أو العصيان لهذا التعسف الإداري، وقد يضطر للخروج من العمل أوقات الدوام الرسمي لسبب مشروع، أو قد يضطر لطلب إجازة، فيتم رفضها من قبل الرئيس المباشر دون مبرر نظامي، كالقول: إن هناك أعمالا يجب إنجازها، أو إن الاستئذان ممنوع في بداية الدوام أو آخره، ومن هذا القبيل!.
وبناء على ما سبق، يقوم المشرف أو الرئيس المباشر، برصد تأخر إنجاز الأعمال، وكذلك رصد خروج الموظف أثناء الدوام الرسمي، وإعداد مذكرة بذلك، ويتم الرفع إلى مدير الإدارة، وثم تحال المعاملة إلى إدارة شؤون الموظفين التي تقوم بدورها بإحالتها إلى إدارة المتابعة، التي تقوم بإجراء التحقيق، ثم يوجه خطاب "لفت نظر" إلى الموظف بالصيغة التالية: "نظرا لما لوحظ عليك من عدم الالتزام بأوقات الدوام الرسمي، وكذلك كثرة غيابك وخروجك أثناء العمل، وتأخرك في إنجاز الأعمال الموكلة إليك، مما يدل على إهمال وتقصير في أداء واجبات الوظيفة، فسوف تحال إلى إدارة المتابعة للتحقيق معك واتخاذ العقوبة المناسبة"!.
وبالطبع فإن إدارة المتابعة قد صدر إليها توجيهات شفوية بإقرار العقوبات مسبقا، وقبل إجراء التحقيق مع الموظف، ولكن عليها أن تتخذ الإجراءات القانونية اللازمة التي تحمي الرئيس الإداري من تهمة التعسف وتعفيه من المساءلة، وعليه يكون التحقيق مع الموظف المعني بشكل استفزازي لتثبيت التهمة عليه، فإما أن يرفض الموظف التعاون مع لجنة التحقيق، أو يتم منعه من الدفاع عن نفسه بطرق ملتوية، ثم توصي اللجنة بإحدى العقوبات الواردة في نظام تأديب الموظفين.
وبعد إقرار العقوبات النظامية، يتم إقرار عقوبات أخرى مبطنة وغير قانونية على الموظف، مثل النقل لما تقتضيه المصلحة العامة!، ومنعه من الانتدابات؛ لأن حاجة العمل لا تستدعي ذلك!، وعدم إعطائه دورات تدريبية، أو إعطائه معدلا متدنيا في تقويم الأداء الوظيفي حتى لا يتم ترشيحه للترقية!، إضافة إلى اللجوء للخصم من راتبه بسبب غيابه وتأخره عن العمل.
وبالتالي قد يؤدي فرض العقوبات التعسفية والظالمة بحق الموظفين، خاصة ممن لهم سيرة وظيفية مميزة، إلى حدوث صدمات لا تحمد عقباها، مثل السكتة القلبية أو الجلطة أو مرض الضغط والسكر.
وتأسيسا على ما تقدم، فإني أتساءل: من يحمي الموظف من الإيذاء المعنوي والنفسي؟، فإذا كان هذا النوع من الإيذاء لا يدخل ضمن نطاق نظام الحماية من الإيذاء الذي صدر مؤخرا.. فما الجهة المسؤولة؟، كما أوجه سؤالا آخر إلى "نزاهة": أليست الممارسات السابقة تعد من الفساد الإداري الكبير؟، فما دورها تجاه هذه الممارسات؟.