"السبق الصحفي لا قيمة له إلا عند الصحفيين فقط".. كانت هذه كلمات إعلامي بارز في مؤتمر للصحافة الدولية. الشبكات الاجتماعية و"تويتر" أسهمت في ظهور آلاف مواقع الإنترنت التي لا توجد لها هوية ولا علاقة بالإعلام الرصين، ولكنها سريعة جدا في نقل الأخبار من مصادرها، ثم بثها بعناوين مثيرة على الشبكات الاجتماعية خلال دقائق من بثها في مصدرها الأصلي.
هذه المواقع تحقق أرباحا جيدة لأنها تستطيع بذلك تحقيق عدد كبير من الزيارات، وهذا كاف لجذب المعلن، وتحقيق الأرباح، بدون عناء البحث عن المعلومة والاستثمار في الإعلاميين الذين يأتون بها أولا.
المعلن من ناحيته صار أقل اهتماما في حالات كثيرة بالموقع الذي يظهر فيه إعلانه ما دام الإعلان يأتي بالزوار لموقعه، ولذا فالمعلن يقدم إعلانه لوكالة تملك شبكة كبيرة من المواقع، ويقوم بتوزيعه عليهم، ويدفع على أساس عدد الزوار الذين يصلون إليه.
هذا التغير الكبير في الصناعة الإعلامية يثير الكثير من القلق لدى الإعلاميين، لأن معنى هذا انخفاض العائد من الاستثمار في المادة الإعلامية وصناعة الأخبار، ويعني تصاعد الصحافة القائمة على العناوين المثيرة والصور الجذابة بدلا من المعلومات والأخبار التي تكشف لأول مرة.
بينما كان السبق الصحفي هو القيمة الأعلى لدى المؤسسات الإعلامية في الشرق والغرب، صارت الجودة الإجمالية للموقع ومحتواه هي الأساس، بالإضافة طبعا لقدرة المواقع على المنافسة على الشبكات الاجتماعية ضد آلاف الحسابات على تويتر وصفحات فيسبوك التي تستفيد منهم.
هناك استثناءات طبعا، ومنها السبق الصحفي الذي حققته الجارديان عندما نشرت الوثائق التي سربها إدوارد سنودن من وكالة الأمن القومي الأميركية عن مراقبة شبكات الإنترنت، وحصلت بسببها الجارديان على جوائز عديدة، ولكنها حالات تتناقص مع الزمن.
بالنسبة للمفكر والناقد المعروف الدكتور عبد الله الغذامي، حالة التسابق المحموم على تويتر لإرضاء الجماهير واستقطابهم تمثل انحدارا للخطاب الثقافي، وقدرة المثقفين على تحمل المسؤولية مع تحقق الحرية لهم.
الغذامي في رؤية نقدية بنوية لتغريدات أحمد بن راشد بن سعيد، ومحمد بن عبداللطيف آل الشيخ شخص تلك الحالة بصفتين بنيويتين تنطبق على تلك التغريدات وهي "كاشفة" و"مكشوفة"، فهي مكشوفة لأنها تكشف – بشكل غير مسبوق- الحالة الانفعالية الثقافية التي يحملها كاتب التغريدة، حيث تظهر عفوية سريعة متأثرة بمزاجه اليومي، فالكاتبان اللذان اختارهما الغذامي لنقده "لهما حضور تويتري لافت من حيث تفاعلهما الإدماني في تويتر وكأنهما ساكنان فيها، ومن حيث تصرفهما اللحظوي مع كل حدث ومع كل حالة تغريد تنشأ فجاءة فيما بين الحسابات". تغريدات تويتر هي أيضا "كاشفة" لأنها تكشف جماهير من يغرد وتفاعلهم معه، وبينما الجماهير تصفق وتتجاوب، يزداد انفعال المغرد الجماهيري، ويلجأ لأساليب لفظية في الدفاع عن فكرته تتنافي مع القيم التي يتحدث عنها، وتتنافى مع مسؤوليته ورسالته كمثقف، وتدخل المجتمع في دوامات "تفاعلية" من الانحدار.
بالنسبة لي، هذه الرؤى النقدية من الغذامي وغيره مهمة جدا لمحاولة إنقاذ الواقع الثقافي المترهل من تأثير الشبكات الاجتماعية التي لم تزده إلا ترهلا بشكل مذهل، تكاد تنسى أن هناك كيانا ثقافيا حقيقيا أصلا. ربما كان من الحكمة حضور ندوة ثقافية بين الحين والآخر، حتى لو كان الحضور قليلا والأفكار قديمة والأداء مملا، وذلك حتى تتذكر وجود الثقافة، تماما كما يفعل المؤمن عندما يزور المقابر ليتذكر الآخرة!
ليس الغذامي وحده قلقا من التأثير الرقمي على الثقافة، فهناك قلق عالمي من تأثير الشبكات الاجتماعية على المهارات الإنسانية في التعامل مع الآخرين والتفاعل معهم بروح الإنسان الذي يقدم الفرح للآخرين على طبق من ذهب.
إحدى الدراسات وضحت أنه مع ميل الكثير من الناس في الغرب للعمل في مجال التقنية، والعمل في وظائف تضعهم أمام شاشات الكمبيوتر على مدار اليوم، ومع ميل الجيل الجديد للتواصل الاجتماعي عبر الشبكات الاجتماعية وتطبيقات الموبايل، يوجد هناك تناقص سريع في الخريجين المؤهلين للوظائف التي تحتاج لتلك القدرة الإنسانية مثل الوظائف في القطاع الصحي عموما.
هذه الدراسة بررت تزايد الإقبال على المؤتمرات والمعارض المتخصصة رغم أن التقنيات الرقمية جعلت التواصل مع المتخصصين أسهل وأقل تكلفة وأكثر فعالية بتلك الحاجة الماسة لدى هؤلاء المتخصصين إلى شيء من التواصل الإنساني في عملهم لا يجدونه إلا في هذه المؤتمرات بعد أن أصبح الكثير من الأعمال ينتهي أمام شاشة كمبيوتر.
النتيجة البسيطة التي تظهر من الدراسة هي: كن إنسانا وستحصل على وظيفة ثمينة في زمن تضعف فيه المهارات الإنسانية شيئا فشيئا..
وأضيف: كن إنسانا حتى تنجو بجلدك في زمن تختفي فيه الإنسانية تدريجيا وراء ظلال التكنولوجيا وتوحش الإنسان الذي يستخدمها..!