اليوم أتوجه بالاعتذار من شخصية اعتبارية أكن لها الكثير من الاحترام والتقدير، والتي استحسنت مقالا كتبته لكم منذ أيام بعنوان (كلمات أهديها لكم..)، فقد استشفت الإيجابية من مضامينه، لكني لا أملك إلا أن أكتب، فقدري أن أفعل، فالأحداث التي تمر من حولي تؤثر بي، فتحرك أناملي لتسطر ما عجزت عن تجاهله.
من المعلوم أننا كبشر عندما نحبس في زاوية مغلقة.. لا بد أن نرفع أصواتنا لتسمع، وعندما يتعرض أحدهم لنا، يفترض ألا نسكت وألا ننزوي، وعندما تنتهك القيم وتبتذل يفترض ألا نتجاهل وألا نصمت.. خوفا من ذاك الأفاق أو هذا المهادن.. ولكن فلسفة الخوف التي امتهنها البعض وتخفى وراءها، هي معضلة كل المجتمعات الإنسانية الحديثة منها والقديمة، معضلة لا بد أن تجتث من جذورها.. فالخوف يقلل من قيمة صاحبه، ويضعف الحق الذي لم يخلق كذلك، الحق الذي لم يضعف إلا بضعف وتخاذل أهله.
ألا تعتقدون أن من الواجب علينا تجاه ديننا ثم تجاه وطننا أن نعمد لترسيخ مفهوم القوة المبنية على إيماننا بالله سبحانه القهار فوق عباده، العليم البصير الذي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون، علينا أن نرسخ الإيمان بأن هذا الوطن هو وطننا الذي لن يتخلى عنا يوما.. كما لن نتخلى عنه، وطن نتمنى أن نعيش على أرضه وندفن في ترابه.
إن الواقع مع الأسف يؤكد أن بعضنا يستوجب اجتثاث جذوره ليدفن في القاع، فهو يعتقد أن بإمكانه التهاون بمن تحت يديه، فهو يتحرك بهذا الاتجاه من منطلق اعتقاده أنهم رضعوا الخوف من ألبان أمهاتهم، ودُربوا على التزام الصمت لا احتراما وتقديرا، بل من منطلق الخنوع والخوف، بل هناك من يعتقد أنهم دربوا على الانحناء لغير الله سبحانه.
كما أن من بيننا من يعتقد أن من تجرأ وتقدم للدفاع عن حقه أمام رئيس أو وجيه، هو متطاول يستحق العقوبة والنفي، بل نجد البعض يعمد إلى ترسيخ الخوف فيمن كان شاهدا على ممارسته للظلم، إمعانا في ضمان خنوعهم وإقفال أفواههم، فالويل كل الويل لمن تقدم لقول كلمة الحق فيما دار ويدور أمام ناظريه من ظلم وإسفاف.. بل والكثير من الناس عادة - ومع الأسف- متخفون يخشون ظلهم ويحقدون على من هم فوقهم لا لشيء إلا لأنهم أصحاب سُلطة.. فقد انطبع في عقولهم أنه لا بد أن يكونوا ظالمين، ولذا هم لا يثقون بالراعي الأمين، اعتقادا منهم أنه لا بد أن يكون حليف ذاك الذي مُكن له فظلم وتطاول وهدد ووعد، والغريب أن بعض حديثي النعمة ممن مُكن من رقاب الناس ينسى نفسه ويمارس الظلم بغباء، فيتعامل مع من هم دونه كعبيد لا ناقة لهم ولا جمل.
ولهؤلاء أقول هناك أصوات خلقت لتصدح بالحق، وبالحق تصدح، أصوات خلقت ليسمعها القاصي والداني.. أصوات لا تعرف الخنوع لغير الله، أصوات تجل من أدرك أنه في منصبه خادم لمن تحت يده، وما حق الطاعة الواجب له إلا لأنه الساهر على مصالحهم وراحتهم، بارك الله فيه وفي أمثاله وسدد خطاهم للخير والفلاح.
أما من اعتقد أن كرسيه المتحرك جعله سيدا لعبيد فهو واهم، وليعلم أمثاله أن صوتا واحدا للحق كافيا بحول الله سبحانه بهز الأرض ومن عليها، فربنا الله مالك الملك الكريم الوهاب المنتقم الجبار الرحمن الرحيم القادر فوق عباده، حرم الظلم على نفسه، فكيف لهذا أو ذاك ممارسة الظلم والاعتقاد أن الأمر سيسير دون رادع.
أدرك كما يدرك غيري -مع الأسف- أن هناك من يخشى الشر وأهله اعتقادا منه أن الشيطان وأعوانه أكثر سطوة من الحق وجنوده، ولذا هو خاضع للظلم منحن أمامه، لذا هو يظهر خلاف ما يبطن.. ويسكت عن الظلم وهو كاره.
ثم لماذا ينظر بعضنا بحذر للمدافع عن الحق، ويعد فعله تطاولا؟! بل لماذا يحجم عن الدفاع الحق ويطالب بذلك؟! ألا يعني ذلك أنه لا يؤمن به؟! أو أنه يعتقد بضعفه، وأن الخزي لا محالة مآل أصحابه، والمؤلم أن معظم هؤلاء ليسوا بكارهين للحق.. لكن الخوف استحكم على أرواحهم وشل جوارحهم.
في واقع الأمر لم أر يوما متنازلا عن حقه قادرا على نصرة غيره، أو على الولاء لقيم يجدر أن تكون حاضرة في حياتنا اليومية، ولا أعتقد أن أمثال هؤلاء قادرون على الإخلاص لمن حولهم سواء في حياتهم العملية أو حتى الخاصة.. فهم كالفئران يفرون يمنة ويسرة ودون ثبات، فتارة إلى الشرق، وتارة إلى الغرب.. وهكذا.
ثم كيف لنا أن نخاف ونحن نؤمن أن الله مع الحق ..؟! كيف لنا أن نخاف ونحن نؤمن أن الله هو الملك، هو القادر، هو القهار، هو المنتقم..؟! ثم كيف نزرع الخوف وننميه في أبنائنا وبناتنا، ونقتل الشجاعة فيهم. وقبل أن تظهر أول معالمها..؟! كيف نعلمهم النفاق ونبدع في ذلك؟! ثم كيف نخلط بين الشجاعة والتطاول؟! والاحترام والخنوع، ونعد كل من دافع عن حقه متطاولا يستحق أشد العقوبة، ثم كيف نربيهم على مواجهة من امتهن القيل والقال وإلصاق النقيصة بغيره.. كيف لنا أن نمكنهم من التفرقة بين الدفاع عن الحق والتطاول؟! الأمر يتطلب تضافر الجهود ووضع خطط يشارك في وضعها المتخصصون في مجال العلوم الشرعية والتربوية وغيرها من العلوم ذات الصلة. خطط تعمم لتصبح مع الأيام من معالمنا الوطنية المميزة.
نعم هناك الكثيرون ممن سيقولون لمن حاول الحراك باتجاه إصلاح المعوج (طنش.. تجاوز.. لا توجع رأسك.. فالحق هو الخاسر دوما.. لم ينتصر ولن يفعل، وإن فعل فلا بد من خسائر.. تدفعها من جانبك)، قد يكون أولئك صادقين في نصائحهم لأنهم وأمثالهم ساعدوا على تدعيم سطوة الظلم باستسلامهم له، لأنهم فروا من الحق كفرارهم من الطاعون، ولكن في المقابل سنجد رجالا ونساء لا يخافون في الله لومة لائم، وواجب هؤلاء أن يعمدوا إلى بيان مواقفهم بشجاعة متوكلين على الله في الأول والآخر، عليهم أن يظهروا الولاء لمن يستحق ممن مكنه الله علينا وهم كثر بحمد الله.. أمّا القلة ممن يعتقدون أنهم قادرون على إذلال البشر فعليهم مراجعة مواقفهم اليوم.. وغدا.. وبعد غد، والله المستعان.