لماذا الكتابة دائماً صعبة؟ ليست للأمر علاقة بسقف الحرية، فما لا يقال بالتلفاز ستجده في الجريدة وما ليس فيهما ستراه في الإنترنت بأدق التفاصيل، إذاً ما الذي يجعل الكتابة صعبة فعلاً؟ لأن الشرط الكتابي لا يستدعي قول الخبر أو نقل الحقيقة دائماً، فلم تعد الحقيقة مهمة على أي صعيد، فأسطورة تُحرِّك الجماهير، أهم بآلاف المرات من حقيقة تجلب النوم للمستمع، هكذا هو الوعي الشقي أو الغبي، لا فرق، وهكذا هي الجماهير منذ ما قبل الميلاد في محكمة أرسطو، وحتى صلب المسيح، وصولا لاحتراق جسد البوعزيزي.

الكتابة صعبة عندما تريدها أن تكون رأياً، والرأي لا يكون بجمع الكلمات، بل بجمع المعلومات لتكوين رأي، فالرأي استفراغ جهد صادق للخروج بكلمة شريفة ترضي ضميرك، على حساب ضمير الجماهير، وهنا يقع الكاتب في حرج المضمر، فالمسكوت عنه هو اليتم المعتق لقضايا تبحث عمن يجاملها ولو بمسح الرأس بحثاً عن الأجر.

ضمير الجماهير تحركه "الميديا"، وضميرك يقاوم الانجراف والانحراف، تعيش ضامراً من الناس متخماً بالطفولة وأنت تصر أملاً في مواصلة الواجب الأبدي مع صخرة سيزيف ودفعها للأعلى مهما كررت عليك قوانين الجاذبية كلمة (مستحيل).

انشغالك بحفرة في شارع أكثر من اللازم ذُهان لا يصح للعقلاء!، وانشغالك بأزمة المواصلات تضخيم للقضايا لا يليق بالنبلاء!، وانشغالك بولدك قلة حيلة وضعف في الهمة!، وانشغالك بوطنك اغتراب عن منزلك وميلاد لصداع الوعي وآلامه! لا تبالي بكل هذا الوصف المكبِّل للروح قبل الجسد... انشغل بما تشعر أنه يمثلك، ولو كان في ورقة مليئة بمحاولات لا تنتهي للوصول إلى توقيعك الخاص، (شخبطتك/ خربشتك الخاصة) تذكر أنها الوحيدة التي تساوي بصمتك وأنت تعاني الأمية أو تقترف جريمة، فالبصمة توقيع، وتوقيعك بصمة، لتكون أنت مكتوباً ومعترفاً بك كإشارة مقدسة ترتبها يدك لتعطي كلماتك صدقاً ومعنى كأنك أنت.

لا تصدق قولهم: الشرط في الفعل الناجح الاستطاعة، بل الشرط في الفعل الرغبة في التضحية، والتضحية ليست مطالب انتحار، بل مطالب حب وفناء لا نشعر معها لا بوقت ولا زمان، بل ديمومة ونشوة، شرطها الموهبة وستعرف بحدسك الباقي، فلا تنشغل براتقي النصائح على قدر عجزهم وكلالتهم، وتذكر (لا نصيحة في الحب لكنها التجربة، لا نصيحة في الشعر لكنها الموهبة) وعليهما قس كل أمرك.

لماذا الكتابة صعبة في هذا الزمن؟ لأن الكتابة لم تعد معقولة، بقدر ما هي مضاهاة وتعريف بواقع لا تحتمله الكلمات العاديَّة، إن لم تكن شعراً... نعم شعر، وهل يقبل القرَّاء أن يقرؤوا جريدة مليئة بالقصائد؟ لا لن يقبلوا فالقصائد عزف على أشجانهم، والكتابة الصحفية عزف على أوجاعهم، ويا لبؤس القسمة بين الكاتب والشاعر.

حتى الشعر له شرطه الوجودي الشاهق لنحميه من كلاسيكية بلاستيكية تزعم في نفسها خُطَى المتنبي، وحقيقتها هروب من شاعرية الروح إلى شعرنة النظم، فإما نرى كأمل دنقل شاهقاً بالتحدي وهو على سرير المرض، خيرا من شاهق بالتيه لعمر ضاع في الملق بين كافور وبلاط سيف الدولة، أو لا أقل من مظفر النواب، ليكون قادراً على التناسب مع بذاءة ما تنقله الفضائيات من هز للوسط أو قطع للرؤوس، ولا شيء في المنتصف، كي لا تختزل الكتابة في نصف موقف أو نصف رأي.

ما نراه حولنا لا يحكيه سوى شاعر حقيقي يعري مطالبنا عندما يتلو علينا (عابرون في كلام عابر)، أما الكُتَّاب فليسوا سوى العقل يزعم السلوى مرةً والتبصر كرةً أخرى، وكيف تكون البصيرة والحواس تُقَطَّع أوصالها باسم الديني حيناً وباسم السياسي أحياناً أخرى، وما زال الكاتب يختبئ من ظل هذا إلى ظل ذاك، مهلهل الأسمال خائفاً يرجف، يسترجع مصير الحكماء مع الدهماء منذ تاريخ البشرية القديم مع زعيم القبيلة وساحرها، فالطوطم تستعيده الشعوب المغلوبة على أمرها كي تستقيم أمورها ولو على حساب تشوهات نفسها، فلا مستقبل عندها لمن لا يستعبده الماضي ويستعيده ليستحق الزعامة فيها، حتى المثقف الذي ديدنه السؤال، لا تزويق الإجابة، أصيب بداء الماضوية، تحت وهم الأصالة، متناسياً أن الأصالة مطلب وجداني، والصرامة مطلب معرفي، فكل ما ليس إنسانيا بالضرورة لا يكون أصيلاً، ولو رعته المعابد وقدسه الكهنة وديدنته العادة ألف عام، وما إغلاق أسواق النخاسة وتجريم بيع البشر عنَّا ببعيد.

الحداثة هي التفكيك، وما بعد الحداثة هي ما بعد التفكيك، والمخيف أن نحول التفكيك الحقيقي إلى تفكيك مزيف عبر الأدوات نفسها لصالح نتائج ذات إجابة مغلقة تمنع الديالكتيك الطبيعي والمأمول، فحتى على المستوى الفقهي سندرك الفرق الذهني بين الإمام أحمد والشافعي لنعرف الفرق بين الفقيه والمُحَدِّث، فكيف لو أدخلنا في المعادلة الفقهية شخصا بقامة أبي حنيفة النعمان، لينكشف لنا مجرد أن تكون محدثاً فقط، رغم عباءة الفقيه التي ألبسك إياها إصرار أتباعك، لمواقف أجبرك عليها الجمهور، ولم يجبرك عليها الحق.

هناك تفكيك ذو طابع تكريسي لما هو سائد رغم ظاهره النقدي الفاخر، لكنه شيء يشبه مسرحية (الزعيم) لعادل إمام، التي يشاهدها الزعيم ويضحك مع الضاحكين وعليهم، وتلك عقدة المنشار في كثير من الدراسات النقدية التي تجيد الانشغال بالثقافي كلحاف يمنع عنها زمهرير السياسي، فكيف تكون الزعامة الفكرية لمن يريدها بكف ناعم، عبر ملعقة من المصطلحات الذهبية.

ليس من المعقول أن يصر ابن القبيلة البدائية في أقصى الدنيا من أدغال البرازيل غرباً إلى صحراء التيبت شرقاً على أن تراثه محمل بكل ما هو موجود في الغرب كرحم للحضارة الحالية، ولا يشعر بعظم الهوة الحضارية، التي تستدعي منه انتفاضة حقيقية على كل مناهجه المعرفية التي كرسها ساحر القبيلة، من تحديد أوقات الصيد والزراعة إلى تحديد أساليب العلاج، فتحكي له عن الآيباد فيرد عليك بكل برود بعد أن تمضي وقتاً طويلاً في الشرح، ليخرج لك لوحاً خشبياً يكتب عليه بفحمة أخذها من مكان شوائه، رافعاً هامته بكل عنجهية قائلاً: ما الفرق الحضاري بين قبيلتي وهؤلاء الغرباء، ثم يهمس في أذنك، أن الغرباء قد جاؤوا وسرقوا فكرة الآيباد من جده العاشر، الذي كان يستخدم هذه الألواح في شفاء المرضى بعد أن يرسم عليها طلاسمه، وأن آباءه يحكون كيف أن الغرباء استعاروا من جده أحد هذه الألواح الخشبية ولم يعيدوها، ويختم كلامه: متهماً صانعي الآيباد بأنهم أصحاب حضارة مسروقة عن أجداده. طبعاً كل هذا لا لوم فيه على هذا الرجل البدائي، اللوم والعتب، بل والحنق أحياناً على الذي تعلم من هذه القبيلة عند هؤلاء الأغراب، ثم عاد لقبيلته ليبرر لهم كل ما يعيشونه من كساد فكري، فيستخدم بكل دباقة أدبيات (ما بعد الحداثة)، لإقناع من حوله بعيوب (الحداثة)، ومن حوله ما زالوا يعانوا في مجتمعهم إلى النخاع وعلى جميع المستويات من عيوب (ما قبل الحداثة)، وما قبل الدولة الحديثة، ويستخدم النقد اليساري في تشويه الغرب بعد أن يطعمه بتعاويذه المعتادة، ليظنها الآخرون من كيسه وكيس أبيه القديم، فالمهم عنده أنه يزايد على المفاهيم الحديثة للإنسانية كما يزايد صاحب اللوح الخشبي على مخترع الآيباد.

وأخيراً لعلنا نرى في صندوق باندورا رغم كل الشرور التي خرجت منه، ضرورات لجدلية النهضة، وتفتق بذور الحياة فيها من جديد، ومن يريد أن يكون استثناء نادراً من تلك الجدلية فما عليه سوى التمسك بالعقم الاختياري لأبي العلاء المعري إذ يقول: هذا ما جناه عليَّ أبي وما جنيت على أحد.