شكّك الدكتور عبدالله الفوزان (الوطن، 22/ 9/ 1431) في التنسيق والتوافق بين المدينة والمحكمة العليا في شأن إثبات الأهلة الذي صرح بوجوده الدكتور محمد السويل، رئيس مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية.
وجاء البرهان على صحة تشككه من إعلان المحكمة العليا بطلب تحري هلال شوال هذا العام مساء الأربعاء التاسع والعشرين من رمضان (الوطن 27/ 9/ 1431). وهو إعلان يبرهن على انتفاء التنسيق الفعلي بين الجهتين. ولو كان هناك تنسيق بينهما للزم أن تهتم المحكمة بما ورد في كتاب "أحوال الأهلة لعام 1431" الذي أصدرته المدينة، وأعده تسعة من الفلكيين فيها، وحددوا فيه (ص 109) أن القمر في تلك الليلة "يغيب قبل الشمس بعشر دقائق"، في أفق مكة المكرمة، مما يعني أنه لن يكون هناك هلال ليتراءى!
أما المدينة فلم تحرك ساكنا بخصوص مخالفة هذا الإعلان لقرار مجلس الوزراء رقم (143) الصادر في 22/ 8/ 1418 الذي نص في مادته "الثامنة" على تكليفها بـ"إعداد جداول سنوية أو أكثر، توضح مواعيد الاقتران (مولد الهلال) شهريا، ومواعيد شروق الشمس والقمر وغروبهما، وموقع الهلال وشكله في ليالي مظنة رؤيته".
فلو وُجد تنسيق بين الجهتين لأشارت المدينة على المحكمة بأن إصدار هذا الإعلان غير صحيح لأنه يطلب ترائي الهلال في ليلة ليست "مظنة" له، كما حددها الفلكيون فيها. ولالتزمت المحكمة بنص تلك المادة التي تقضي بأن تبني إعلانها بطلب الترائي على تحديد المدينة لتلك الليلة.
صحيح أن مدينة الملك عبدالعزيز تبذل جهدها، طوال السنوات الماضية، في المساعدة في رصد الأهلة، وتضع "كل إمكاناتها العلمية والبحثية فيما يختص برصد بدايات الأهلة من تلسكوبات ومناظير فلكية وأجهزة للتقريب والتصوير وتوفير المختصين العلميين لتأمين الدعم الفني اللازم"، كما صرح الدكتور السويل.
لكن هذا الجهد يذهب أدراج الرياح دائما. فعلى الرغم من تكليف المدينة بعضَ منسوبيها بالاشتراك في لجان الترائي الست، وذهابهم بأجهزة الرصد إلى أمكنة الترائي، إلا أنهم يرجعون في كل مرة مهزومين بسبب مبادرة بعض "المترائين!" الواهمين الذين يشهدون برؤية الهلال بالعين المجردة وقبول القضاة شهادتهم. ولم تجد المدينة الجرأة، وإن لمرة واحدة، لتعبِّر عن مرارة هذا التجاهل المتكرر لعلمها وعلمائها. بل إنها تمنع المتخصصين فيها من الحديث عن قضية الأهلة طلبا للسلامة.
وأكثر من ذلك فإن المدينة تخالف ما يقوله المتخصصون فيها لأنها تخرجهم ليلة التاسع والعشرين من الشهر للترائي حتى إن كانت رؤية الهلال مستحيلة بالعين المجردة أو بأية وسيلة أخرى في بعض الحالات، أو لعدم وجود الهلال فوق الأفق. وهي تسهم بذلك في تهيئة الجو لمتوهمي الرؤية بادعاء التفوق على المتخصصين فيها، وتعطي للهيئات الشرعية مسوغا لقبول شهادة المتوهمين. ولو امتنعت المدينة عن إرسال المتخصصين فيها تلقائيا إلى الترائي في تلك الليلة لكان ذلك بمثابة احتجاج صامت على قبول تلك الشهادات الواهمة.
لقد استمر هذا الوضع غير الصحيح زمنا طويلا بسبب عدم إصغاء الجهات الشرعية لما يقوله الفلكيون عن هذه القضية البسيطة. ومادام أن المحكمة العليا الآن في بداية عملها فيمكنها الإسهام في علاج هذا المشكل المزمن بإصلاح بعض الممارسات التي تسهم في إدامته.
ومن ذلك:
1- إعادة النظر في تطبيق قاعدة أن "المثْبِت مقدَّمٌ على النافي"، التي تطبق تلقائيا من غير اعتبار لاختلاف وسائل الرؤية. فيمكن تطبيق هذه القاعدة بين مترائييْن بالعين المجردة يدعي الأول رؤية الهلال وينفيها الثاني. كما يمكن تطبيقها على مترائييْن بالمناظير المقربة أحدهما يثبت والآخر ينفي. أما تطبيقها بين من يتراءون بالعين المجردة والمترائين بالمناظير المقربة الحديثة فغير صحيح لاختلاف وسيلتي الترائي، ولاختلافهما في الدقة التي تتفوق بها المناظير.
وهناك مشكل آخر في تطبيق هذه القاعدة جلاّه الشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل بقوله إنها: "فُهمت على غير وجهها لخلوِّ كُتب السلف من كتب مفردة تحرِّر نظرية المعرفة البشرية، ونظرية المعرفة الشرعية؛ فالمثبت هو من أقام دعواه على برهان؛ فتكون الحجة على النافي ببراهين تجعل برهان المثبت غير وارد" (الجزيرة 1/ 8/ 1431). ويعني هذا أنه يَلزم المثبتَ أن يُبرهن على إثباته، ولا يمكن الاكتفاء بادعاء الإثبات. ويمكن أن يُنقض هذا الإثبات ببراهين يوردها النافي. ويعتمد المتخصصون الذين ينفون رؤية الهلال على براهين قوية على نفيهم. ومنها الحساب الفلكي الذي يتفق المتخصصون في العالم كله على دقته، والتوافق مع الراصدين الآخرين في العالم كله، وغير ذلك. وهي براهين قوية تقف في مواجهة "ادعاء" محض لا يملك الرائي بالعين المجردة ما يدعمه من خارجه.
ولم يحدث أن شارك المتخصصون في الشهادة. ذلك أن القضاة المكلفين بإثبات الشهادة لا يستشهدونهم لأن المبادرين من شهود الرؤية يَسبقونهم فيؤخذون على أنهم شهود إثبات، ثم ينظر إلى المتخصصين على أنهم شهود نفي فيصرف النظر عن شهادتهم.
2- صاغت المحكمة العليا بعض المعايير التي يسأل عنها من يدعي الرؤية. لكن هذه المعايير تتطلب أن يسمعها قاض محايد يعرف إجاباتها علميا. وهي تؤخذ الآن على أنها معلومات إضافية عن الهلال، ولا يتحقق منها في الليلة التالية مثلا للتأكد من صحتها. ثم إن هذه المعلومات متوفرة ويمكن لأي واهم أن يعرفها ويستخدمها لدعم رؤيته الخاطئة.
3- تطلب المحكمة العليا "من المسلمين في المملكة" ترائي الهلال، أي أنه يمكن لأي فرد رأى الهلال أن يشهد. لكن الذي يحدث طوال الخمس والعشرين السنة الماضية في الأقل هو الاقتصار على قبول شهادة مجموعة لا تزيد عن خمسة أفراد في منطقتين معينتين يتمتعون بالتزكية التلقائية المطلقة. وعلى الرغم من تكرار الخطأ في رؤيتهم إلا أنهم يتقدمون بالشهادة الواهمة دائما وتقبل شهاداتهم. ويتعارض الاقتصار على هذه المجموعة مع نص إعلان المحكمة، كما يتعارض مع الحجة التي تكررها الجهات الشرعية بأن الرؤية بالعين المجردة متيسرة للناس جميعا.
وينافي هذا الاقتصار المتكرر على هؤلاء الأفراد المادةَ الأولى من "لائحة تحري رؤية هلال أوائل الشهور القمرية" التي تنص على أن "تحري الهلال وترائيه حق لجميع المسلمين". ومن جهة أخرى تعتمد تلك المجموعة المعروفة من المبادرين بالشهادة على الحسابات الخاطئة التي ينشرها محمد روضان الشايع دائما. وقد ذكر في تصريح له (الجزيرة، 26/ 8/ 1431) "بأنه وبعد تسع وعشرين يوماً من الصيام أي في يوم الأربعاء 29 رمضان يولد هلال شهر شوال قبل غروب الشمس عن مكة المكرمة مما يعني إمكانية رؤية هلال عيد الفطر ليلة الخميس"، وهذا ما سيجعل هؤلاء الواهمين يتراءون الهلال في تلك الليلة، وربما يشهدون برؤيته!
4- ومما يسهم في استمرار المشكل أن القضاة في المنطقتين المعنيتين يعارضون علم الفلك بشدة، ويضعون ثقتهم المطلقة في الشهود الذين يعرفونهم. ويتطلب هذا أن تتولى المحكمة نفسها مساءلة الشهود. وليس هذا عسيرا الآن لوجود وسائل الاتصال عن بعد. كما لا غنى للمحكمة عن إشراك الفلكيين السعوديين في قراراتها لأنهم الأدرى بهذا الأمر، وهم ثقاة بكل تأكيد.
وخلاصة القول أن تصريح رئيس مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية بوجود تنسيق بين المدينة والمحكمة العليا في هذا الشأن المهم يثير كثيرا من الأسئلة، وتنفيه الممارسات المعهودة للمجلس الأعلى للقضاء قديما وللمحكمة العليا في الوقت الحاضر. والأمل أن تتدارك المحكمة العليا الموقرة ما يمكن أن يؤثر على مصداقية قراراتها في المستقبل.