الفكرة كائن جميل خجول يحتاج أن نقترب منه بلطف ليطمئن لنا ويسمح أن نحوله إلى كلمات عذبة خلابة تصل إلى الأذهان ببساطة؛ والحياة فكرة لا تختزلها مفرداتنا مهما بلغت من الجمال!

حين تحولنا من مجتمع بسيط تتناثر مقدراته على مصادر المياه الشحيحة إلى مجتمع نفطي تفيض خيراته من حقول ذهبه الأسود.

حدثت لنا هزة اجتماعية أحدثت شرخا بين ثقافة أكثر من جيل؛ الأول جيل الأجداد الذي عاش التدبير والتوفير، والثالث جيل الأحفاد الذي لم يدرك إلا مجتمعا بني على أفكار النفط التي تحترق بسرعة، وفي المنتصف علق جيلنا الذي انفلت من ثقافة آباء مدبرين وعجز عن ملاحقة رغبات أبناء مبذرين، وهو جيل فقد التوازن خاصة بعد أن تعوّد على سلوكيات ما سمّي بالطفرة التي لم تدم طويلا، وكانت فواتيرها منخفضة التكلفة مقارنة باليوم؛ ثم بدأت توازن نفقاتها حتى ضاقت المساحة بين الدخل والمصروفات على مستوى الأفراد وحتى مؤسسات الدولة. الذي حدث لاحقا هو أننا بقينا متمسكين اقتصاديا بفكرتي "الخير واجد والله لا يغير علينا" التي تحمل في مجملها قناعة بالدخل وهدرا في الصرف!

لنأخذ شركة الكهرباء نموذجا، فهي حاليا تتلقى دعما من الدولة لتستمر شركة مساهمة قادرة على دفع حقوق للمساهمين؛ هذا مع كمية الدخل الضخمة التي ندفعها كفواتير خاصة في فصل الصيف القادم بحره اللاهب. الكهرباء التي تهدر في القطاعات الحكومية وتشكل دائرة يصعب أن نكسرها من النفقات، لأننا ببساطة لا نعي أثر ترك أضواء الكهرباء وأشعة الشمس تغطي المكان، أو بقاء مكيفات تعمل في غرف غير مأهولة لساعات!

نموذج آخر خفي وإن طفا على السطح، وهو هدر الماء لا ما نراه يخرج من المنازل، فالغرامات حدت منه كثيرا، لكن التسربات التي تتم في منازلنا فترهق فواتيرنا كلما زادت كميتها وتنزل إلى طبقات الأرض، إما لأن المواسير تحطمت، أو لأن أدوات السباكة المتاحة لم تعد تصمد طويلا؛ والحال نفسه مع شبكات المياه في الشوارع التي تحول بعض الشوارع إلى بحيرات فجأة، وتجري المياه منها لعشرات الأمتار وأكثر لتزيد صحارينا عطشا!

وما دمنا نزلنا إلى الشارع فهناك تكرار الحفر والسفلتة والحفر في مدى زمني متقارب مع تكلفة عالية؛ وهناك المطبات الصناعية التي تتضافر مع أختها الطبيعية لتجعل شرط القيادة الآمنة أن نصعد المرتفعات وننزل المنخفضات الأسفلتية، ولتصب في ميزانية ورش السيارات والبضائع المقلدة، وتستنزف قائد السيارة، ومن الممكن استبدالها بأشياء أسلم.

وبين الفساد والنزاهة حكايات للهدر تبدأ بعبارة توضح نمط الفساد ولا تنتهي إلا بأمل أن يرتدع الفاسد أو تقوم الإدارة التابع لها بمحاسبته، وكلما ارتفع سقف الفساد انخفض سقف الأمل في الإصلاح.

ما سبق صور مادية، وهناك لوحات معنوية، منها: ما يتم في التخصصات الجامعية وفي مخرجات التعليم التي لا يجد الوطن لها مكانا، ويستمر باستقبال وافدين في أعمال دقيقة ومهمة يحتاج إليها، ولن أطيل فلديكم هنا من الحكايات أكثر مما لدي، لكن الأخطر هدر الأرواح الذي يصافح أعيننا على الطرق السريعة وغير السريعة، ويخلف البشر بين أشلاء لا تحمل روحا، وبين أرواح في أجساد معطلة تتنقل بين دور رعاية وأسر يؤلمها قبل أن يرهقها ألمهم، وكأننا خرجنا من حرب دمار شامل!

أصبح الموت يقطف أزهارنا الشابة التي كنا نأمل منها الكثير والكثير، لكن أملنا قد تضاءل على عداد تجاوز حدود السرعة ليحكم بالموت على ورود الحياة.

لو طبقنا ما سلف على مجالات شتى لوجدنا الهدر يتغلغل سلوكيا فينا حتى نصل إلى القروض الشخصية التي نوفر بها متطلبات الحياة الضرورية بل والكماليات التقنية، وهذه القروض تسرق دخلا قادما وعمرا أصبح مسخرا لمصالح ملاك هذه البنوك، أما صاحب القرض فيبقى لاهثا وراء قرض جديد قبل أن ينتهي القديم، فنحن باختصار لا نهدر الحاضر، بل نهدر حتى مكاسب المستقبل!

طوفان الهدر يجتاح كل حياتنا بصور كثيرة، وبين عجزنا عن التواصل مع ثقافة الآباء الذين غابوا بخبراتهم الاقتصادية عن وجه الحياة أو همش نقص التعليم وكبر السن ما لديهم؛ وأبناء يحاكون ثقافة متطلبة لا تهدأ شباناً وشابات وأطفالا لم يبلغوا الحلم، وتعليم وإعلام إن طالبا بالترشيد عجزا أن يقدما أدواته.

ولأننا نحتاج إلى خلق قيم إيجابية وزرع أخلاقيات وسلوكيات فينا وفي شبابنا الذي يهدر ماله وصحته وحياته، وكأنه ينتقم من عدو لدود، نحتاج أن نتساءل: كيف نحد من الهدر؟ وهو سؤال يطرح لنا تحديا لنعرف الفرق بين النفقات الضرورية والإسراف، ولنقدر أننا لسنا على نهر جار، وأن ما يحدث في الحاضر يشكل المستقبل، فما نفقده اليوم يستحيل أن يعود غدا، وما هو حق للغد يجب أن يبقى للغد، فلا نستنزفه قبل أن يحل اليوم الذي هو له.

أخيرا: لفتة شكر لكل من قدر مقالاتي السابقة تعليقا وتنويها، شكرا بحجم كل مسافات عشق الحرف التي تجمعنا، لا حرمني الله منكم جميعا.