هناك أصوات في أوروبا تسعى لنشر أجواء من الإحساس بعدم الأمان اليوم والتخويف من المستقبل. أصوات يجمع بينها التحذير المتكرر من خطر الإسلام "الزاحف" الذي يريد تثبيت ركائزه، بل ونصب راياته في أرض القارّة القديمة.
وكانت نغمة التحذير هذه قد برزت منذ حوالي عقدين من الزمن وأخذت أشكالا مختلفة. ذلك ابتداءً من استخدامها من قبل حركات اليمين المتطرّف التي جعلت من المهاجرين عامّة، ومن الوافدين من بلدان إسلامية خاصّة، سبب البلاء الحقيقي ومصدر كل الشرور التي تكابد منها البلدان المعنيّة.
ووجدت النغمة نفسها أصداءها بصيغة مبطّنة، ولكن "مقروءة" بلا عناء، في النقاشات التي أُثيرت أخيرا من قبل السلطات العامّة في بعض البلدان الأوروبية تحت عنوان عريض هو "الهويّة الوطنية".
وفي جميع الحالات لم تكن المصالح الانتخابية غائبة عن مثل هذه الأطروحات، بل شكّلت، ولا تزال تشكّل، خلفيتها الحقيقية في أغلب الأحيان. ولا يخفى على أحد أن حملات انتخابية على مختلف المستويات في أوروبا، من تلك المتعلقة ببلديات صغيرة وحتى الانتخابات الرئاسية، قد عرفتها بأسماء وعناوين مختلفة.
آخر الأصوات المحذرة المنذرة من الإسلام "الزاحف" تشهدها هذه الأيام الساحة الألمانية بسبب كتاب أثار نقاشات وضجّة كبيرة قبل صدوره منذ أيام. ذلك أن الصحف الألمانية ـ بيلد وشبيغل الشهيرتين ـ قد نشرت صفحات عديدة منه.
هذا الكتاب يحمل عنوان "ألمانيا تدمّر نفسها"، والأطروحة الرئيسية فيه تقول إن ألمانيا "سوف تكون خاضعة للإسلام بعد فترة وجيزة". اسم المؤلف هو "تيو سارازان" وهو أحد أعضاء إدارة البنك المركزي الألماني.
تجدر الإشارة إلى أن هذا المؤلف كان قد صرّح عام 2008 أن الأتراك الذين يشكلون النسبة الأكبر بين المهاجرين في ألمانيا لا يصلحون لشيء سوى ربما لـ"بيع الفواكه والخضار وإنجاب فتيات محجّبات". وتجدر الإشارة أيضا أنه لم يتردد في القول أن "لليهود مورّثة ـ جينة ـ خاصّة وللباسك جينات خاصّة تميّزهم عن الآخرين".
ويرسم المؤلف صورة لألمانيا في أفق المستقبل غير البعيد حيث ستحل المساجد مكان المكتبات وسيأخذ الشبيبة الذين يفتقرون للتعليم من أبناء الهجرة مكان الألمان الذين هدّتهم الشيخوخة. وأن الألمان سيغدون أقليّة وسوف يتم التوقف عن تعليم اللغة الألمانية في المدارس...
لا بدّ من الإشارة أن أفكار سارازان واجهت حملة من الاستهجان والنقد من أغلبية التعليقات ووصفها رئيس الحزب الاجتماعي الديمقراطي الألماني ـ حزب المؤلف ـ أنها "غبيّة" و"عنيفة" واعتبرتها المستشارة الألمانية انجيلا ميركل أنها "جارحة". كما أن الاقتراب من اليهود أثار موجة من الغضب ضد "تيو سارازان" واتهامه بمناهضة الساميّة.
لا بد من الإشارة أيضا أن مثل هذه الأفكار ليست جديدة، إذ ترددت أطروحات سابقة أكّد أصحابها أن الإسلام خطر على الحضارة الغربية "الظافرة". وذلك ما كان قد ردد المفكر الفرنسي ارنست رينان في محاضرته الشهيرة التي ألقاها في جامعة السوربون بباريس بتاريخ 23 مايو ـ أيار 1883 ووصف فيها الإسلام كنقيض للتقدّم. ووجدت تلك الأفكار نسختها الأخيرة في مقولة صدام الحضارات لصاحبها صموئيل هنتنغتون والمستوحاة من مقولات "معلّمه" برنار لويس. والأمثلة كثيرة.
الجديد هو أن أطروحات تيو سارازان ومن لفّ لفّه ومن يريد توظيفها لغايات سياسية وانتخابية "قصيرة النظر" تصب مباشرة في خانة التحريض والتطرّف في السياق الراهن. والخطر الحقيقي هو الوقوع في التحريض والتطرّف المقابل. وليس هناك رابح من نشر ثقافة الخوف والتخويف.
للجميع خصوصياتهم وثوابتهم العزيزة على قلوبهم... السلام حلم الجميع والحضارة الإنسانية تشمل الكلّ.