دخان أسود يغطي الأجواء السورية المتشحة أصلا بالسواد.. هو ليس دخان القنابل والصواريخ التي تنهال على المدن السورية ليل نهار منذ أكثر من عامين وأتت على الأخضر واليابس، بل هو دخان لا يقل فتكا عنها وناتج عن النفط المحترق في المدن التي يسرق منها ويكرر بطريقة بدائية تعود نتائجها الجسيمة على البلاد والعباد.
حرب أخرى تجري على الأراضي السورية، يتغافل الجميع عنها، تدار بأيدي "كتائب النفط" الذين تركوا ساحات القتال، واستغلوا الفرص المتاحة وسرقوا النفط الخام وباعوه.
ماذا عن هذه الظاهرة الخطيرة التي يتعامى الكثيرون عن أضرارها؟
تعالوا نتابع هذه الجولة في أكثر المناطق النفطية سخونة، ونستطلع بعدها آراء المختصين والاقتصاديين والناس المتضررين في مدينة دير الزور (480 كلم عن دمشق)، التي تعاني حصارا خانقا منذ أكثر من عام ونصف.
تواجد فعال
تعتبر مدينة دير الزور ثالث أكبر المدن السورية مساحة وأغناها بالنفط، وتتركز فيها الحقول النفطية الكبيرة التي باتت جميعها خارجة عن يد النظام. وتأتي مدينة الحسكة في المرتبة الثانية لمعاقل النفط السوري، حيث يتركز في منطقة الرميلان التي ما زالت شبه آمنة، وفي منطقة الجبسة والشدادي التي سقطت من يد النظام أيضا. كما توجد حقول نفط أخرى في منطقة حمص التي توجد فيها مصفاة للتكرير، كما أن هناك مصفاة أخرى في بانياس، وهناك حقول نفطية في بعض أرياف حلب والرقة، وغالبها تحت سيطرة من يستولي عليها.
لعنة النفط
يعتبر أبناء مدينة دير الزور أنفسهم أكثر المتضررين من النفط، ويقولون إنه لعنة أصابت المنطقة الشرقية منذ أن تم اكتشافه فيها، ولم يجلب لهم سوى الأمراض والويلات التي أصابتهم، ويوجد فيها حقول التيم والعمر والتنك والجفرا والورد والكم والطابية، وفيها أكثر من 70 بئرا نفطية، هي الأكثر إنتاجا في سورية، وتقع تحت أيدي أبناء ريف دير الزور الذي بات أغلبه دون وجود نظام فيه، مما دفع الناس هناك لتقاسم هذه الثروة بطريقة عشائرية، ويجنون من ورائها ملايين الليرات السورية.
ويقول غاندي، وهو أحد العاملين سابقا في تلك الحقول: للأسف لم يتركوا النفط وحاله، بل تم الاستيلاء على غالبية الآبار في مدينة دير الزور، وبكل بدائية يستخرجونه عبر بعض القادرين على ذلك ويبيعونه بأسعار زهيدة للأسف، وتذهب عائداته إلى جيوبهم الخاصة فقط. والأنكى من ذلك أنهم يقومون بتكريره بواسطة حراقات أقل ما يقال عنها إنها بدائية جداً، من أجل بيعه داخل المناطق السورية بأسعار باهظة جداً للمواطنين المحتاجين، ويباع الخام منه إلى تركيا.
فيما يتحدث شفيق بكل أسى، وهو أحد أبناء مدينة دير الزور عن الواقع المأساوي للمدينة بقوله: في السابق كانت مدينتنا تعاني كثيرا من الإهمال والظلم والفقر، وغياب المشاريع الحيوية، وبالتالي فيها النسبة الكبرى من البطالة، والأمراض المزمنة، وبعد اكتشاف النفط ازداد الأمر سوءاً ولم ينعكس علينا خيراً، حتى إنه لم يتم توظيف أبناء المدينة إلا بنسبة لا تتجاوز العشرة بالمئة، والباقون يأتون بهم من خارج المحافظة. ولم تستفد المحافظة شيئا من النفط على صعيد البنى التحتية، بل ازدادت سوءاً وكثرت الأمراض جراء الدخان المتصاعد منها، وانتشار الغازات الضارة. وتدهورت العملية الزراعية التي كانت أهم مصادر المنطقة ماديا، كما أن المياه باتت ملوثة بشكل أكبر بعد النفط، رغم أننا في السابق كنا نشرب المياه الطينية من نهر الفرات الملوث بكل ما يخطر على بالك من ملوثات.
لصوص النفط
ولم يعد خافيا على أحد سبب تلك الغيوم السوداء التي تراها بالعين المجردة وأنت قادم إلى مدينة دير الزور التي تشهد ظاهرة انتشار لصوص النفط الخام، الذين يقومون بثقب الأنابيب وسرقته منها وبيعه للأهالي في ظل افتقار سورية عامة للمحروقات، وفي ظل غياب الرقابة لتحقيق مكاسب غير مشروعة.
ويقول أبو الغيث، وهو أحد الثوار في كتائب دير الزور: للأسف هناك من استغل فلتان الأوضاع وترك الميدان وتفرغ للسرقة من أنابيب النفط. وبعض أهالي القرى التي يمر النفط فيها تقاسموا الخطوط، وهناك من تقاسم الآبار، وكل عائلة لها نفوذ أصبح لها بئر، ومنذ فترة نشب قتال عنيف بين عشيرتين جراء هذا الموضوع وراح ضحيته أكثر من مئة شخص بين قتيل وجريح، وبعض القرى باتت مستقلة تماما تبيع وتشتري النفط وتخزن عائداته، ولا وقت لديهم من أجل حساب المبالغ، بل يقومون بوزنها بالميزان، وهناك عشرات القصص الحقيقية حول هذا الموضوع.
لا أحد يحاسبهم
ويروي صالح الفراتي كيف ينجو لصوص النفط من المحاسبة بقوله: غالبية الحقول المسروقة تقع في المناطق التي قام الثوار بتحريرها وطرد النظام منها.. من حدود العراق شرقا إلى مطار دير الزور غربا، أي ما يسمى بالريف الشرقي، ولكن بفعل العشائرية الموجودة أبقيت هذه القرى بأيدي أهلها الذين استغلوا هذا الفراغ ويقومون ببيع النفط.. الغرابة تكمن في أنها قرى ليست كبيرة، ونشك في أن أهلها متواطئون مع النظام، حيث تقوم الطائرات بالتحليق فوق القرى ولا يقومون بضرب من يسرق النفط ويخرب الاقتصاد الوطني، على حد زعم النظام في قنواته الرسمية، من أجل وقف هذه المهازل المسيئة والسرقات التي تستنزف ثروة الوطن، بل يقوم الطيار بإفراغ حمولة الطائرة في النهر أو أي مكان ثان، كونه يقبض منهم ثمن ذلك، والنتيجة أن غالبية الأجهزة الأمنية تتعامل مع لصوص النفط ويتغاضون عنهم في قمع السرقات، ولا يملك الثوار أي سلطة تساعدهم على السيطرة على هذه الآبار ومحاسبة اللصوص، كون المعركة مستمرة في المدينة بشكل كبير ودون توقف، وغالبية ثوار الريف الحقيقيين في المعركة، والفوضى عارمة هناك.
مهزلة
غالبية الآبار في الريف الشرقي، ومنها حقل "التنك" في بادية "شعيطات"، تنتج النفط الخفيف، ورغم أنه غير مناسب للاستخدام كوقود للمركبات وفي معظم الاستخدامات العادية، إلا أن كونه من النفط الخفيف يجعله قابلا للحرق دون الحاجة إلى تكريره، ومفيدا لغايات الطهو والتدفئة، مع أنه ينتج دخانا كثيفا للغاية، بحسب ما يقول مزعل، وهو أحد أبناء تلك المنطقة وقد غادر الريف ليسكن في دمشق بعيدا عن هذا الوباء، ويصف الحالة بالمأساوية جدا.
النفط بـ 8 دولارات
ويتابع قائلا: إنها تجارة جديدة، تضاف إلى تجار الأزمات والحروب الذين تكاثروا في سورية على حساب الشعب المقهور. وتشكلت العصابات لتبيع برميل النفط بنحو 8 دولارات. ووحدهم أهالي منطقة شعيطات يسيطرون على حوالي 20 بئرا، ويقومون بالاستيلاء على النفط قبل أن يصل للحقل. ويقول مزعل إن "العملية تتم بالتوافق بين العائلات الكبيرة التي تملك الرجال والسلاح، حيث تتقاسم الحقل حسب قوة الجماعات والقبائل التي تقف خلفها". ويؤكد أن 4 جماعات في منطقة غرانيج تسيطر على نحو 10 آبار، وتنتج كل جماعة نحو ألف برميل يوميا، وأن هذه الحالة تنطبق أيضاً على مناطق أبو حمام والطيانة ودرنج والجرذي وشنان والشحيل وذيبان وخشام، وهي كلها تحوي آبارا نفطية. ويصل الدخل اليومي إلى مئات آلاف الدولارات.. وهي تلجأ لإنفاق جزء منها في شراء السلاح لحماية مصادر الدخل الجديدة. وهناك من يشير إلى أن بعضهم يقومون ببيع النفط للنظام.
سؤال منطقي
ويتساءل الاقتصادي (جمال. ك). بشكل منطقي قائلا: إذا كان بعض سكان الأرياف في المدن المحررة يجنون كل هذا الربح وهذه الملايين، مع أنهم يبيعون النفط بأسعار زهيدة للخارج، فأين كانت تذهب كل هذه الأموال في السابق؟ ولماذا لم تكن تدخل بشكل فعلي في موازنة الدولة؟ ولماذا لم تنعكس خيرا على المواطن السوري الذي يعتبر الأقل دخلا في العالم؟ ويلفت إلى أن النفط السوري من أجود الأنواع الموجودة في العالم، وكان بالإمكان أن يشكل رافدا حقيقيا للدولة. ويشكل إنتاج النفط نحو 24 في المئة من الناتج الإجمالي لسورية، و25 في المئة من عائدات الموازنة، و40 في المئة من عائدات التصدير. ويشير جمال إلى أن سورية تملك نحو 2.5 مليار برميل من الاحتياطات النفطية المؤكدة، وقد تزيد على ذلك بكثير بسبب عدم مسحها بشكل دقيق ونهائي. وأنتجت سورية 581 ألف برميل يوميا عام 2001 ، وبعد اندلاع الأزمة في مارس 2011 تراجع إنتاج النفط السوري إلى نحو 20 ألف برميل في اليوم فقط.
أضرار صحية
ويروي الدكتور سميح قائلا: لدينا وثائق كثيرة تثبت وجود أمراض باتت مزمنة جراء تصاعد الأدخنة في الجو والتلوث الذي يصيب المدينة والريف، وأكثرها أمراض صدرية. وهناك حالات كثيرة لسرطان الجلد نتيجة التماس اليومي مع النفط الخام الذي تنبعث منه غازات سامة. وبسبب التلوث الذي يصيب المياه فقد تعرضت المدينة والريف لحالات تسمم كثيرة، بل لدينا حالات من اللاشمانيا (حبة حلب)، ووثقنا وجود حالات شلل أطفال لم تكن موجودة في السابق، كما ازدادت الآفات القلبية بين أبناء المنطقة.. وهنا لا بد لنا من قرع جرس الإنذار لظاهرة التلوث البيئي وانعكاسه على الناس بشكل مباشر وعلى الأغذية والخضار والفواكه أيضا، حيث تختزن الأشجار والثمار والخضراوات المواد السامة، سواء من التربة أو من الجو، وبمجرد أن يتناولها الإنسان تصبح في بدنه.
تشوه الأجنة
ويقول الدكتور سميح: هناك حالات كثيرة من تشوه الأجنة زادت عما كان موجودا بنسبة الضعف وأكثر، حيث لدينا دراسة سابقة قبل موضوع سرقة النفط تفيد أن مدينة دير الزور وريفها يشهدان نسبة عالية من تشوهات الأجنة كانت بفعل الغازات المنبثقة من النفط في الأجواء بشكل كبير، ولم يلتفت أحد إلى هذه المسألة نهائيا رغم تحذيراتنا المتكررة.
أكثر الأنهار تلوثا
وتعتبر مدينة دير الزور من أكثر المدن السورية التي يعاني أبناؤها من مرض الفشل الكلوي، إلى جانب أمراض السرطانات والقلب. وأوضح الدكتور( مصطفى. ح) أن أسباب هذه الأمراض تعود إلى تردي عوامل النظافة في مياه الشرب التي هي أصلا لا تخضع لمراقبة صحية. وفي الأصل يعتبر نهر الفرات حاوية كبيرة لكل النفايات وأفنية الصرف الصحي ونفايات المشافي والمعامل، حيث تصب جميعها فيه بدءا من دخوله الأراضي السورية وحتى خروجه منها. وقد طالبنا كثيرا بعمل محطات معالجة للمياه، وتحويل كل تلك المصبات والنفايات بعيدا عن النهر، ولكن لا حياة لمن تنادي، فالوضع كان سيئا جدا، واليوم هو أكثر سوءا، مما يسبب كل هذه الأمراض التي باتت مزمنة في المدينة وريفها، ولا بد من معالجة قصيرة وطويلة ووضع برامج زمنية لها، وإلا فإن كارثة إنسانية ستحصل لا محالة في ظل انعدام كل أشكال الرعاية الكافية والحصار الخانق الذي تعاني منه المدينة.
أثرياء جدد
ويروي المواطن حسين (50 سنة) أحد جوانب المأساة الاقتصادية بقوله: لم يقف تجار الأزمات عند سرقة النفط الخام، بل اتسع نشاط العصابات ليصل إلى نهب المعدات وأجهزة الاستكشاف والحفر وأنابيب النقل الممتدة لمئات الكيلومترات، وسرقة الكثير من الأجهزة والمعدات الثقيلة الخاصة بالحفر والاستكشاف التي تقدر قيمتها بملايين الدولارات وباعوها بمبالغ زهيدة، لافتا إلى قيام جماعة بتدمير غرفة التحكم الخاصة بحقل "القهار" بشكل كامل، والتي تقدر قيمتها بمئات آلاف الدولارات، من أجل استخراج القليل من مادة النحاس وبيعه بثمن بخس. ويتابع حسين: هناك من يقوم بسرقة رؤوس حفارات آبار النفط. وكل هذه الأفعال أفرزت شريحة جديدة من أثرياء الحرب. ولأن طبيعة المنطقة عشائرية فإن هناك حساسية ومبالغة في جمع الثروات، مما حدا بالبعض إلى التناحر والقتل كي يكون المكسب أكبر، كما زادت الأبنية الفخمة والفلل ومحطات الوقود بكثرة.
كلام خبير
وتحدث الخبير في مجال استخراج النفط (ذ. ع) عن مخاطر استخراج النفط بهذه الطرق البدائية بقوله: إن عمليات العبث والتخريب للمنشآت النفطية والآبار والخطوط بهذه الطريقة، وسكوت الجميع عنها، أديا حتما إلى كارثة صحية وبيئية واقتصادية على المنطقة برمتها، كتلوث الجو المحيط نتيجة للدخان المنبعث من الحرائق والمصافي العشوائية المقامة من قبل الأهالي، وازدياد الأمراض بينهم، إضافة لتلوث مياه نهر الفرات والمياه الجوفية والينابيع والسواقي، نتيجة تسرب مخلفات التكرير من المصافي العشوائية والبدائية، وارتفاع نسبة المواد السامة فيها نجم عنه أمراض مزمنة ووفيات لدى القاطنين، إضافة إلى نفوق الحيوانات والطيور والأسماك، وتضرر الثروة الحيوانية في المنطقة، والتأثير الضار على المزروعات والغطاء النباتي في القرى والمناطق المجاورة للآبار التي تحترق، ونواتج المصافي العشوائية وموت معظم النباتات والمزروعات بسبب تشكل طبقات رقيقة من الفحم على النباتات. ويضيف: "كما أن التلوث نتيجة لتصريف مخلفات المصافي العشوائية سيؤدي لتلوث المياه الجوفية والسطحية، حيث يبقى تأثيره السرطاني لعشرات السنين ولا يمكن معالجته بأي طريقة كانت، وسيظل الأهالي والثروة الحيوانية يعانون من الأمراض المزمنة كسرطان الدم وحبة اللشمانيا والتيفوئيد، وقد تزايد عدد المصابين بشكل ملحوظ خلال الآونة الأخيرة"، لافتاً إلى أن "التلوث الإشعاعي يستمر لفترات طويلة، ولا يمكن إزالته من التربة والهواء لأجيال قادمة، كون التكرير في المصافي العشوائية يعتمد على التقطير الجوي، وتكون نسبة استخلاص المشتقات النفطية المفيدة كالمازوت والبنزين لا تتجاوز 10 إلى 15 % ، والباقي 85-90% يتم تصريفه أو حرقه بشكل عشوائي".
تلوث إشعاعي
ويوضح الخبير أن الخطر الأكبر يأتي من التلوث الإشعاعي عند عمليات استخراج النفط نتيجة انطلاق وتسرب المواد المشعة (صلبة أو سائلة أو غازية )، كالراديوم والرادون والبولونيوم من المكامن النفطية إلى السطح. وهذه المواد تطلق إشعاعات مختلفة، مثل ألفا وبيتا وغاما، والتي تسبب أمراضا خطيرة مثل السرطان وكذلك العقم لدى الجنسين وتشوهات تصيب الأجنة. أما الخطر الآخر فهو في تلوث الماء الذي يمكن أن ينتقل المواد المسرطنة والسامة مباشرة إلى الإنسان من خلال شرب الماء، أو عن طريق تناول الحيوانات والأسماك والنباتات التي تعتبر ذات قدرة عالية على تركيز المواد المشعة في أجسامها.
ليست هذه كل الحكايات
فعلا ليست هذه كل الحكايات التي حدثت بفعل النفط في سورية، بل هناك حكايات كثيرة وعميقة ومآس لا يمكن أن تخطر على بال أحد، للنفط السوري.. عناوين كثيرة في الحرب الدائرة.. بعضها دولي بإشراف منظم من أجل استنزاف هذه الدعامة الهائلة لسورية الغد، والثاني محلي تديره عقليات انتهازية.. وبعضها يديره النظام وبعضها عصابات وعشائر استغلت الفرصة للتلاعب بحياة ومقدرات البلد الذي يئن من كثرة ما أصابه من طعنات.