يحدث أحيانا أن يقف "صاحبكم" أمام الجدار ليسأله: وماذا بعد هذا الصمت الاضطراري والانتظار العبثي؟ سنوات يصعب حصرها مضت هكذا دون طعم ولا رائحة و"صاحبكم" يبرر الأمور، فيقول مثلا: كنت متفرغا للتأمل، رغم يقينه بأن التأمل مهنة العاطلين، فيرد الجدار: وما العيب بأن تكون عاطلا؟ على الأقل ستجد وقتا كافيا لممارسة الحياة باستمتاع وتلذذ.

ينام حتى يمل السرير جسده، ويجلس حتى تتيبس مفاصله، ويتجول بأنحاء المدينة ليحفظ كل شبر فيها، ويراقـب جـميع الجـدران لتصبح مألوفة، ويطبع علاقته معها، فتتسع المسافات بعيدا عن الزحام المسعور، وتصبح المواعيد كلها سواء؛ لأنه سيغادر جدارا ليدخل في آخر.

تنتابه حالة فلسفية شجية، فيخاطب جداره المفضل: أجمل الأيام تلك التي لا تجبرني فيها متطلبات الحياة أن أغادرك، وأبشعها التي أجد بها نفسي مجبرا على البقاء خلفك رغما عني.

ويقول فيما يقول: ما الفرق في أن أكون هنا أو هناك ما دام الجدار هو الأفق الوحيد، اللعنة على الجدران، اللعنة على مشاعر الإذعان لسطوتها.

لكنه عاد ليتساءل: أليس هناك ملايين البشر يحلمون ببضعة جدران تظلهم، أربعة جدران تخفي أحزانا لا تنتهي، وأفراحا عابرة كالغيوم.

الجدار كينونة مستقلة تماما، ووجود فرض قسوته، لكنه في نهاية المطاف يحتاج لمن يبنيه ومن يهدمه، فالجدار يُبنى ببطء ويُهدم بسرعة، وثمة جدران تقهر الزمن، وأخرى هشة تسقط على رؤوس أصحابها، وعبر الجدران حقق البعض ثروات طائلـة، كما منح الجدار الفرصة لجيش من العمال والمهندسين والشركات.

حينما شيد الإنسان أول جدار كان قد اتخذ قرارا تاريخيا بالانفصال عن المجتمع، فنثبت بالجدران مساحتنا الحميمة على وجه الأرض، نعلق عليها صور الأحبة وأزمنة افتقدناها.

أولى حكايات التاريخ الإنساني نقشت على الجدران، والجدار يعني الاصطدام، وللجدران ننحني، ونخوض لأجل بعضها المعارك، فثمة جدران مقدسة، وأخرى سيئة السمعة، جدران توغلت في الضمير، وأخرى لا قيمة لها.

اللصوص يحتاجون الجدران ليجتازوها، والطغاة يحتاجون الجدران ليؤكدوا سطوة سجونهم، وعندما نتصالح مع الجدار نتصالح مع القسوة، وثمة أناس يدخلون في الجدار، وآخرون تدخل الجدران فيهم، حينما نقبل الجدار نؤكد تلك السادية أو الماسوشية الكامنة في أعماقنا.

الجدار هو الكبت والانفلات، القوة والضعف، حبال الرجاء وهاوية اليأس، والجدار كما يستأنس الوحوش في حدائق الحيوان، فهو أيضا مأوى الحشرات الصغيرة.

وللجدران قدرة فائقة على الإلغاء والتلاشي، فحينما تمتلك جدرانك تصبح عنوانا سهلا لرجال الأمن والضرائب والفواتير، وحين تحيطك الجدران تخترقها بالأبواب والنوافذ لتقنع نفسك بحرية خرافية لا وجود لها سوى في مخيلة الحالمين.

أطلق "صاحبكم" لخياله العنان، وراح يرسم صورة لمدينة بلا جدران.. كل البشر والحيوانات والطيور والحشرات معا وجها لوجه، ترفع راية شعارها "لا جدران".. وابتسم من فرط عبثية التفاصيل المتوقعة في هذه الحالة، ثم ما لبث أن امتعض وهو يتخيل ما قد يجري من كوارث.

سيتحول كل مخلوق إلى جدار، وسيتشبث كل منهم بجداره الخاص، وسيبكي الشعراء "زمن الجدران"، وتنوح المغنيات شوقا لأيامه الخوالي.

مستلقيا على ظهره يتأمل جدرانه التي كانت تبتسم كلما نظر إليها وقال: لا بد أن مفهوم الثقب هو الوحيد القادر على إرباك الجدار، وابتسم بسخرية من هذه الفكرة رغم وجاهتها.

يشعر "صاحبكم" بمرارات دفينة في وجدانه، فيقرر أن يثقب جداره ليتسلى، لكنه اكتشف حينذاك أن جدرانه كافة مثقوبة منذ زمن بعيد، مثقوبة بالفطرة، فامتدت يده لصحيفة ملقاة بجواره: طائرة أميركية تخترق "جدار الصوت" فوق إحدى الدول المحبة للسلام، والإسرائيليون يواصلون حفر الأنفاق تحت "جدار المبكى"، وقصيدة لشاعر متحذلق بعنوان "جدار الصمت".

سيدي الجدار: كيف حالك اليوم؟، أنا الغريب الذي طالما بالغ في مدحك وهجائك، وبعدها تثاءب "صاحبكم" بصوت مقزز، وشعر بسعادة طاغية تباغته، فتناول قطعة جبن أوشكت على التعفن ورغيف خبز يابس، ونظر من شرفته قليلا، وعاد مستسلما ليدخل الجدار عميقا في وجدانه.