عندما نزل مقالي يوم الجمعة الماضية، بعنوان "ووكالات السيارات يا صاحب السمو"؛ قرأه نخبة من رجال وسيدات أعمالنا الشباب الطموحين؛ الذين أغلقت الوكالات الحصرية للسلع والخدمات فرص الاستثمار الحقيقي أمامهم؛ فزودني بعضهم بمعلومات وأرقام، مرعبة جداً عن احتكار وتسلط أصحاب الوكالات التجارية. فصدمت من هولها، وقررت نشرها في مقالي هذا وتوجيهه كذلك لفارس السماء "الطيار الحربي"، النبيل؛ صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز، ولي ولي العهد والنائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء - حفظه الله ورعاه -. والذي بدوره أفزعه احتكار وتسلط البنوك القليلة عدداً في المملكة، التي يعد اقتصادها من اقتصاديات العشرين الأولى في العالم.
فارسنا النبيل، مقرن؛ هو من علق الجرس ودق ناقوس الخطر، عندما قال عن البنوك قولته الشهيرة والتي أطربت وشنفت آذان المواطنين في المملكة، حيث أخذوا ينشرونها ويتباشرون بها، كسحابة غيث سح رخاء، على قلوبهم. حيث قال: "البنوك كالمنشار تأكل وهي طالعة وتأكل وهي نازلة". وهنا سأوجه مقالي الثاني هذا إلى مقام سموه النبيل؛ إيمانا مني بنبل مشاعره وصدق نواياه.
يا صاحب السمو، لا بد وبلا تردد بأن نعد كل من يسيطر ويحتكر هذه الأعداد الهائلة والمهولة من الوكالات التجارية وحصرها عليه فقط لا غير في أكبر سوق عربية؛ وهو سوق المملكة؛ أخطبوطا مخيفا بل ومرعبا ومؤذيا لأمن وأمان الوطن بشكل عام. ولا يمكن بأن نشكك بقدرة هذه الأخطبوطات الرأسمالية "القارونية" الجشعة في السيطرة بل والهيمنة ليس على مؤسسات الدولة التجارية التنظيمية والرقابية وحرفها عن هدفها الوطني المطلوب منها وهو حماية المواطن من الاستغلال؛ بل وإلى حماية المستغلين أنفسهم من أن تطالهم يد العدالة.
نعم الكيانات الكبيرة تسهم في تطوير مجالاتها لكنها تقضي على منافسيها الصغار، الذين تقوم عليهم اقتصاديات الدول؛ لهذا سنت أشرس الدول رأسمالية، قوانين لمنع الاحتكار وتفكيكه، لا بل والمعاقبة عليه. والاحتكارات الفردية والتكتلية، يا صاحب السمو، بدأت تفرض سيطرتها على قطاعاتنا الاقتصادية، بشكل علني وواضح، تؤكده الإحصاءات الرسمية المعلنة؛ وهذه بعض المؤشرات الخطيرة جداً التي تشوه وجه اقتصادنا السعودي. ثلاثون تاجراً يحتكرون 45% من السلع الرئيسية في أسواق المملكة. يوجد عدد من التجار لدى كل منهم أكثر من 35 ألف وكالة حصرية عليهم. شركة واحدة تسيطر على أكثر من 70% من حجم زيوت الطعام. ثلاث من كبريات الشركات الزراعية "المساهمة" تسيطر عليها أسرة واحدة. أحد عشر بنكا "فقط" يسيطرون على قطاعنا المصرفي، والتي بدورها يسيطر عليها حوالي أربعة عشر تاجراً عدا بنك الإنماء وبنك الرياض والبنك الأهلي، الذي تسيطر عليها الحكومة، مشكورة. ولهذا فليس من المستغرب بأن تفوق ديون المواطنين للأغراض الاستهلاكية والحياتية من أبناء الطبقة المتوسطة والصغيرة أكثر من 300 مليار ريال.
هنالك مؤشرات أخرى تؤكد تشوه قطاعاتنا الاقتصادية تشيب منها الرؤوس وتقشعر منها الأبدان، وهي واضحة كل الوضوح، إلا لمن لا يرى أو في نفسه هوى. هذا جانب من جانب آخر مقابل ما تحصل عليه الكيانات الكبيرة من امتيازات وقروض وتسهيلات وإعانات حكومية هائلة؛ تقدر بعشرات؛ إن لم نقل بمئات المليارات سنوياً. والسؤال هو كم تدفع هذه الكيانات من ضرائب تعود على مصلحة الشعب؟ كما هو معمول به في جميع دول العالم. هل تصدق أنه في يوم الأربعاء الفائت، ومن خلال الورشة التي نظمتها مبادرة الزيتون في حائل قام ممثل شركة إحدى الشركات بشن هجوم كاسح على الجمعيات التعاونية للمزارعين وللمسوقين الزراعيين الصغار والمتوسطين والمدعومة بسخاء من الحكومة. كونها فقط تمثل المزارعين الصغار والمتوسطين، الذين بدورهم يمثلون الحصانة الوطنية، ليس فقط لتوفير الغذاء الاستراتيجي للوطن، وإنما محاربة احتكار غذاء وقوت المواطنين.
لقد ارتكب يا صاحب السمو، راسمو خطط التنمية الحكومية خطأ كارثياً عندما اعتمدوا النمو التراكمي للأصول ورأس المال ونسوا أو تناسوا التنمية الاقتصادية والاجتماعية بمفهومها الشامل والواسع. فهناك فرق شاسع بين المفهومين، حيث يعد علماء الاقتصاد والاجتماع، التنمية بأنها، مجموعة العمليات الواعية التي يتم بموجبها تحقيق النمو أي الزيادة الحقيقية في الناتج القومي الإجمالي مع عدالة التوزيع. وذلك حتى لا تتركز الثروات في أيادي القلة القليلة من التجار على حساب الأكثرية الساحقة من الناس، والتي لها الحق المؤكد من خيرات هذا النمو. وهذا يا صاحب السمو ليس غريباً علينا فنحن أول من نادى وطالب به بل وطبقه؛ وذلك بمحاربة شريعتنا السمحة والنيرة الربا، للاحتكار الذي في النهاية يؤدي لتكديس الأموال بيد القلة ويحرم منها الكثرة من ذوي الحاجة والمعوزين. حيث أمرنا سبحانه وتعالى في محكم كتابة وصريح آياته "مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيد العقاب".
وإن لم نركز اهتمامنا على التنمية الشاملة الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية وركزنا على النمو الاقتصادي فقط سيسفر عن ذلك، حتماً النتائج التالية. استئثار عدد قليل جداً من المجتمع بالثروة. وهذا يقلص القوة الشرائية خاصة لدى أصحاب الدخول المحدودة وعليه ترتفع الأسعار وتعلو نسبة التضخم. مما يؤدي إلى اضمحلال الطبقة الوسطى وانحسارها، والتي تعد بدورها، ضمان أمن واستقرار المجتمعات. حيث ترتفع نسبة البطالة في المجتمع ويتدنى مستوى المعيشة وتزداد نسبة الفقر فيه. مما يؤد حتماً، لظهور التوترات الاجتماعية والاقتصادية وتبرز ظاهرة العنف وترتفع نسبة الجريمة وكل هذا حتماً سيهدد الأمن الوطني من الداخل؛ ويكون أكثر خطورة من التهديدات الخارجية.
وكي لا نصل لـ"مرض هولندا Dutch Disease" وهو عبارة عن حكومة غنية + شعب فقير. وهو نسبة للمرض الاقتصادي الذي ظهر في هولندا في أواخر القرن التاسع عشر؛ نتيجة لغياب المتخصصين في الاقتصاد الاجتماعي والاقتصاد التنموي السياسي والاقتصاد الكلي، بشكل عام؟ مما أفسح المجال للفكر اليميني المتطرف لتولي رسم خطط التنمية، مما أودى إلى سيطرة التجار على مفاصل الاقتصاد.
بينما التنمية الحقيقية بمفهومها الشامل الاقتصادي والاجتماعي تقود حتماً إلى النمو الاقتصادي مع مراعاة عدالة التوزيع للثروة الوطنية. وتطوير علاقات الإنتاج ورفع مستوى المعيشة والوعي الاستهلاكي والحقوقي ونمو مؤسسات وتنظيمات المجتمع المدني. وهذا بدوره كفيل بتوفير الاحتياجات الأساسية للإنسان، مثل التعليم والصحة والمسكن والحرية والأمن والسلام. وهذا بالتحديد ما تحقق في دول عديدة مثل الدول الإسكندنافية وألمانيا التي ينص دستورها على أن ألمانيا دولة اجتماعية، حيث إن ميزانية وزارة الخارجية الألمانية، والتي تصرف على جميع سفاراتها ومنظماتها وإعاناتها في جميع أنحاء العالم، تعادل فقط ما نسبته أقل من 15% من ميزانية وزارة الشؤون الاجتماعية.
والله يحفظكم يا صاحب السمو ويحفظ قيادتنا الرشيدة وكل مواطنينا ووطننا، الذي بارك الله من حوله وجعله أمناً للعالمين.