يشهد التاريخ الإنساني بين ثنايا صفحاته الثقافية والفكرية والجغرافية والاقتصادية والسياسية، فضل البعثات والمبتعثين على اختلافهم واضح المعالم في تقدم المنجز الحضاري الإنساني، وكتبت إنجازات رحلاتهم شهادات تاريخية بنقلهم ـ كل على طريقته ـ ثقافات وخبرات شعوب وأمم العالم المختلفة، وتقريب الفكر والشعوب إلى بعضها البعض، مما أسهم لاحقا في نهضة بلادهم وازدهارها.
وعلى مدى العقود الماضية تبنت السياسة التعليمية في المملكة العربية السعودية، سياسة إرسال بعثات طلاب وطالبات العلم إلى أفضل الجامعات والمعاهد والمؤسسات العالمية في دول أوروبا وأميركا وشرق آسيا، ليأتي برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث تتويجا طبيعيا لإتمام مهمة بناء الإنسان السعودي وقادم تاريخه، وليفتح الباب على مصراعيه لرسم جزء مهم جدا من لوحة النهضة السعودية المأمولة القادمة.
ويقول تقرير نشر عبر موقع التنمية الإدارية إن "تقارير صادرة من وزارة التعليم العالي أن لديها هدفا استراتيجيا من برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي، بعد انتهاء مرحلته العاشرة عام 2020، وهو تخريج 500 ألف مبتعث سعودي من أفضل 500 جامعة في العالم، وأكدت الوزارة أن عدد الدارسين السعوديين في الخارج بلغ حاليا 130397 طالبا وطالبة في 27 دولة، منهم 87844 طالبا مبتعثا من وزارة التعليم العالي، و11845 مرافقا يدرس اللغة، و14103 موظفا مبتعثا، و16605 يدرسون على حسابهم الخاص، وأن المرحلة السابعة من برنامج الابتعاث الخارجي قد انتهت مؤخرا، والعمل قائم للبدء في المرحلة التاسعة، حتى المرحلة العاشرة والأخيرة، التي من المقرر أن تبدأ عام 2014، وأكدت الوزارة أن إحصاءات الوزارة لشهر محرم 1433/ 2012 بينت أن ما نسبته 70.3% من هؤلاء الطلبة يدرسون تخصصات الأعمال التجارية والإدارة، والهندسة والصناعات الهندسية، والمعلوماتية، والخدمات الطبية، والطب، وأن نسبة 85?2% منهم يتركز في ست دول هي أميركا، وبريطانيا، وكندا، وأستراليا، ومصر، والأردن، وأن نسبة 60? منهم يوجدون في الولايات المتحدة الأميركية، وأن التقديرات الأولية تشير إلى أن التكلفة الإجمالية للابتعاث وصلت حتى الآن إلى أكثر من 60 مليار ريال".
بالعودة إلى التقارير والإحصاءات الصادرة عن وزارة التعليم العالي في العام 1433 – 2012، ندرك أننا على أبواب مستقبل إيجابي نوعي مختلف يتكشف لنا شيئا فشيئا، سيتغير معه حتما وجه ومستقبل المملكة العربية السعودية إلى الأفضل على مستويات متعددة؛ نتيجة عودة تلك العقول المتعلمة تعليما جيدا، وانخراطها من جديد في نسيج مجتمعها السعودي، إضافة إلى امتلاكها للثقة العالية في نفسها، الأمر الذي سيرفع من معدل قوة الأداء السعودي فكريا وعلميا واقتصاديا، وتمنحه عنفوان الشباب ودقة التركيز، وليكتب هؤلاء الطلاب المبتعثون في حاضرهم كلمات كثيرة عن المستقبل السعودي وتفاصيله، وهم يثبتون حتى الآن امتلاكهم لمخيلة جيدة عن المهمة التي هم بصددها.
أعرف شخصيا عددا كبيرا من الطلاب المبتعثين الرائعين في أكثر من عشرة بلاد حول العالم على الأقل في مختلف التخصصات، الذين يتواصلون معي عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو البريد الإلكتروني، مقدمين لي صورا حية ومبهجة عن أنشطتهم ومكتسباتهم وتطلعاتهم وبعض معاناتهم أحيانا، وأنا فخور وسعيد بهذه العلاقة الطيبة وأقدم دعمي المعنوي لهم ولمجهوداتهم في غربتهم، وهم يستحقون الثقة على الرغم من الانتقادات التي يطلقها بعض الكتاب هنا وهناك، فدعونا لا نقسو عليهم، فالإحصاءات المنشورة في كثير من المواقع تؤكد على النجاحات التي يحققونها يوما بعد آخر.
نحن إذن أمام عمل مؤسساتي حقيقي متطور، فسياسة وفكر استثمار العقول من أكثر البرامج الاستثمارية العالمية طموحا، كما أنه من أصعب أنواع الاستثمارات وأكثرها كلفة مالية ومجهودا على المستوى الدولي، ستظهر نتائجه الإيجابية العلمية والعملية والاقتصادية خلال العقود القادمة إن شاء الله، الأمر الذي يحسب للسياسة العليا والتعليمية في المملكة.