بعد صلاة التراويح جلست أمام جهاز التلفزيون أتنقل بين قنواته بلا هدف، كغيري ممن يصيبهم الملل أيام الصيف وخلال الإجازات الرسمية وأوقات الفراغ، ويمنعه الازدحام الشديد وفوضى المواصلات من الخروج إلى الشواطئ أو أماكن النزهة النادرة في مدينتنا.

ومن شدة الملل بدأت بعدٌ القنوات ومحاولة التعرف على اللغات التي يتكلمها المتحدث، ثم بدأت بعد ذلك في تفحص محتويات الشاشة البيضاء، فأثارت انتباهي الأشرطة من الكلام التافه والسخيف في معظم الأحيان، تتذيل الشاشة. وعجبت من انتشار المسابقات الأكثر سخفا على بعض القنوات أو الدعاية لليانصيب على الهاتف النقال، والوعود الزائفة ببيت الأحلام أو سيارة العمر، أو برحلة إلى جزر الهاواي وبلاد المغرب. ما عليك سوى كتابة كلمة "نصب" أو "احتيال" بأي لغة شئت ثم إرسالها في "إس إم إس" إلى الرقم المبين على الشاشة أدناه.

هل وصلتك هذه الرسالة؟ "رقمك دخل السحب على الشيفرولية ومعلوماتك ناقصة أكملها على ****7000" لن تعرف قيمة المكالمة التي تكمل فيها بياناتك حتى تصل فاتورة الهاتف.

وانتشار هذا النوع من المسابقات وبهذا الشكل الواسع يعني أنها تجارة رابحة، تجني منها القنوات الفضائية وشركات الجوال الملايين. بالطبع لا أحد يعرف تكلفة الرسالة ولا يوجد من يشير إلى ذلك. يوهمونك بسهولة ربح سيارة فاخرة فقط برسالة واحدة لا تعرف تكلفتها. أو أن تعطي إجابة على الهاتف لسؤال سخيف أو جد بسيط، أو يمكن معرفة إجابته من الشبكة العنكبوتية في أقل من دقيقة. هذا فقط ما عليك فعله لتلج عالم الملايين.. بهذا الكلام يغرون البسطاء!، وقد تقدم الدعاية فتاة، تقف في ثوب شفاف لإغراء المجانين.

في السابق اقتصرت المسابقات في رمضان على الصحف المحلية أو الإقليمية، وكانت لا تتطلب منك سوى إرفاق القسيمة الموجودة على الجريدة، وما كانت تربح المؤسسات إلا من مبيعات الصحف. وفي وقتها كانت المسابقات مفيدة ومثمرة أسئلة في التاريخ أو العلوم والفنون، وبعضها يتخصص في مسابقات القرآن أو الحديث، ولم يكن الإنترنت في حينها موجود، ما يعني البحث في بطون الكتب أو طلبها عند من يعرف الإجابة. ويتطلب الدخول في الاقتراع تقديم إجابات صحيحة على جميع أسئلة الشهر، ما يعني جهدا كبيرا، بحثا وقراءة، تعود على المتسابق بهذا القدر من الفائدة على أقل تقدير.

أما اليوم فالهدف واضح كالشمس، تجار ينظر إليهم العقل بارتياب، وتجارة يتساءل عن شرعيتها المنطق. لماذا لا تُعلن على الشاشة تكلفة الرسالة أو المكالمة الهاتفية؟ بينما تعلن قيمة الجوائز الزائفة في أحرف كبيرة وسوداء... لماذا لا تفرض عليهم الجهات المسؤولة الإعلان عنها، أم أن هذا عصر الفضاء المشاع والعولمة؟

بعض المسابقات خاصة التلفزيونية تقتضي المقامرة بما ربحت من جولات سابقة للانتقال إلى السؤال التالي وجمع المزيد من النقاط أو النقود. وأظن في هذا شبهة إن لم تكن فيها مخالفة شرعية، وأنا لست فقيها، لكنها ريبة العقل ومقتضى المنطق. لذا فنحيل الجانب الشرعي لأهله، عسى أن يتناوله أهل العلم.

وعندما كنت أدرس في الولايات المتحدة كان هناك ما يشبه اليانصيب عندنا وقد يسمونه "البنقو"، وهو موجود في معظم البلاد التي تبيح القمار، لكن ما يجعله مختلفا عن "يانصيبنا" أنه تحكمه قوانين تحدد نسبة الأرباح حتى لا تغالي هذه المؤسسات في الاحتيال على الناس أو تبالغ في النصب. وكذلك يتطلب الإعلان عن الدخل والمصروفات للجهة الحكومية المنظمة لهذا النوع من الأعمال، وأخيرا تذهب كشوف الحساب لمصلحة الضرائب وربما كشف ما يُطبخ عتمة الليل. حتى صالونات القمار في الكازينوهات في لاس فيغاس وغيرها يقننها حساب الاحتمالات للربح والخسارة، ويفرض عليها القانون ويحدد لها نسبة من الأرباح لا يمكن تجاوزها.

وفي واحدة من المسابقات المحلية الشهيرة قيل أنه اتصلت ملايين كثيرة من المشتركين لدخول المسابقة، وبسعر خمسة ريالات للدقيقة الواحدة، وجمعت القناة من ذلك مئات الملايين على جائزة لو تحققت فبمليون ريال، وغالبا ما تنتهي ببضعة آلاف من الريالات. أموال طائلة يجنيها مصاصو الدماء من الضعفاء والسذج. من قال إن القانون لا يحمي المغفلين، بلى، ما وضع إلا لحمايتهم. فهل يمكن لجهة في عصر الفضاء تقنين مثل هذه الأعمال كي تحمينا من المحتالين؟ وهل هناك برامج لتوعية هؤلاء الضعفاء بعواقب الدخول في مثل هذه المسابقات؟ أم أن الحبل على الغارب!

وعلى الصعيد الآخر تجد بعض العلماء، ممن لهم اسم في العلوم الشرعية وسمعة طيبة بين الناس، ضيفا على بعض هذه القنوات الفضائية أو متعاقدا معها، وربما يتحدث عن القمار والربا وهو لا يدري أن على الشريط أدناه تدور ألعاب النصب، أو يشيح بوجهه عنها. ونحن بدورنا نثق بمشروعيتها دون وعي، لاختلاط الصور وتداخل الألوان.

وفي رمضان المبارك، شهر المغفرة، ترتفع وتيرة هذا النوع من النصب والاحتيال، وتزداد أعداد المسابقات المزيفة وترتفع قيمة الجوائز الزائفة. أما الغريب فإنك لن تجد مثل هذه السخافات ومثل هذا النصب إلا على القنوات العربية، والسواد منها على قنوات خليجية.