شدد المتداخلون في جلسات الملتقى العلمي لتقويم جهود المناصحة، الذي انطلق أمس في جامعة الإمام بمدينة الرياض على ضرورة تطوير عمل لجان المناصحة من خلال تكثيف الدورات العلمية والدروس الجادة والقراءات الكثيرة الوافية وإجراء الامتحانات المستمرة والدورية على اللجان وعملها وعلى المناصَحين، فيما استوقفت الجميع المقولة التي أطلقها الأمير نايف بن عبدالعزيز – رحمه الله – "إن الفكر لا يعالج إلا بفكر".
وأشار مفتي عام المملكة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، إلى أن الله أخبر في كتابه أن من وظيفة الأنبياء النصيحة لأممهم، وقال جل وعلا عن قوم نوح "وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون"، وأن النصيحة حقيقتها تبيان الحق والباطل بحكمة ورفق والدعوة الصادقة ونشر الخير، وحذر من الفهم الخاطئ لدى بعض الشباب الذين يدعون إلى اختلال الأمن، لأن كثيرا من الناس فهموا النصيحة على غير مفهومها، إذ فهم الخوارج في عهد الصحابة النصيحة بأنها إعلان القتال لكل مخالف وسفك الدماء واستباحة الأموال وتكفير المؤمنين والخروج على ولاة الأمر وتشتيت الأمن وإعلان الفوضى.
وأوضح المفتي أن مفهوم النصيحة عند السلف الصالح هي الدعوة بحكمة وعلم وبصيرة والأخذ بيد من تنصحون دون القدح، وأن الإفساد ليس من خلق الإسلام بل من خلق أعداء الإسلام، مستشهداً بقوله تعالى "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض...". وحث كل ناصح أن يدعو إلى الخير ويبينه بأسلوبه الحكيم الذي ينبع من أسلوب الرحمة والنصح والشفقة على الإسلام وأهله، مشيداً بجهود مركز الأمير محمد بن نايف للمناصحة والرعاية.
انحرافات فكرية
وبين أستاذ الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة الدكتور عبدالسلام السحيمي، في كلمة أعضاء لجان المناصحة، أن الأمة تعاني من الانحرافات الفكرية، خاصة بين أوساط الشباب ومنشأ ذلك الجهل بحقيقة الدين وعدم معرفة أصوله وقواعده والتفقه فيه وعدم الرجوع للعلماء المعتبرين مع الغيرة والحماسة غير المنضبطين، ويلاحظ هذا بوضوح لدى كثير من الموقوفين، وقد يصاحب ذلك سوء قصد وسوء فهم ممن يغرر بالشباب، وهذا واضح من خلال ما يكتب وما يطرح في منتديات الإنترنت.
وأكد الدكتور السحيمي أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان وكفيلة بحماية الناس من الانحراف متى ما أظهرت بصورتها الصحيحة وعمل بها، مبيناً أن ولاة الأمر أدركوا خطورة هذا الأمر وضرورة الحفاظ على عقيدة الناس وأمنهم ودمائهم وأعراضهم وممتلكاتهم فوقفوا في وجه الإرهاب الظالم بالمرصاد، وفي وجه كل من يحاول المساس بأمن الوطن والمواطن أو بالضروريات الخمس التي يجب المحافظة عليها، كما رأى ولاة الأمر أنه لا بد من معالجة الفكر المنحرف بإحلال الفكر الصحيح علاوة على المعالجة الأمنية، ومن هنا جاءت فكرة برنامج المناصحة وكان أول من نادى به صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف، وأنه يعد سبقاً عالمياً تميزت به هذه البلاد وبرنامجاً ناجحاً بكل المقاييس ولذا أشاد به كثير من الدول والمنظمات.
مركز المناصحة
من جانبه، أوضح مدير عام مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية العميد الدكتور ناصر بن محيا المطيري، أن الفكر لا يعالج إلا بفكر وأن هذه الرؤية أطلقها المغفور له بإذن الله الأمير نايف بن عبدالعزيز، في أوج الأحداث الإرهابية التي وقعت في بلادنا قبل عقد من الزمان، وجعل منها نبراسا يهتدى به ومسارا علميا في التصدي للأفكار الضالة والمنحرفة استنادا لكتاب الله - عز وجل - وسنة نبيه الكريم. وأضاف أنه اهتداء بهذه الرؤية الحكيمة وجه وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز بإنشاء مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية في أواخر عام 1425.
أما مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الدكتور سليمان أبا الخيل، فقال إن أنصح الخلق وأجلهم قدرا وأعظمهم مكانة محمد صلى الله عليه وسلم، كان ناصحا أمينا وداعية خير وهدى وفلاح ورحمة، وهو الأمر الذي يستدعي ضرورة أن نستشعر ذلك، وأن نبحث عن مكنوناته ومعانيه وجميع مبانيه لنفيد بها أبناء المجتمع على مختلف مستوياتهم وتنوع تخصصاتهم حتى يسود المجتمع الإلفة والمحبة والاتفاق والاجتماع والتعاون على البر والتقوى.
أعمال الملتقى
إلى ذلك، أكد عضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية الدكتور عبدالسلام السحيمي في ورقته بالجلسة الأولى، أن لجان المناصحة يجب أن تكون تابعة لأنظمة حماية الأمن الوطني، لافتاً إلى أن الجهل بحقيقة الدين وعدم معرفة أصوله وقواعده والتفقه فيه من أسباب التطرف والتكفير، وتحدث السحيمي عن استحلال الدماء المعصومة بدعوى الجهاد في سبيل الله، وتضييع حقوق الإمامة والبيعة وما يجب لولي الأمر على رعيته، والفرقة والاختلاف بين المسلمين وبيان حرمة المسلم وما يجب له من حقوق.
وأشار الدكتور أحمد بن علي مدخلي، في ورقة البحث التي قدمها بعنوان "معايير اختيار المُناصِحين" إلى أنه يجب أن تتوفر في المُنَاصِح عدد من المعايير أهمها التأهيل العلمي الجيد، والحكمة في الطرح، وتميزه كذلك بالحلم والأناة، وسلامة المنهج والمعتقد وقوة القدرة في التأثير، بالإضافة إلى قدرته على الحوار والمناقشة، والإلمام بالمفاهيم التي يحملها الموقوف ومنها التكفير، والولاء والبراء، ومعاملة الكفار وحكم الاستعانة بهم، وشبهة إخراج المشركين من جزيرة العرب، ومستويات ودرجات إنكار المنكر، والاهتمام بالقضايا الفكرية المعاصرة والدراية بأغراض المناصحة، ومقترحات لبعض الخطط التي تساعد على الرقي بلجان المناصحة، والتعريف بالموقوف، والعناية باللجنة العليا التي تختار اللجان الفرعية للمناصحة.
اختيار المناصِحين
ولفت الدكتور بسام العطاوي إلى أن معايير اختيار المناصِحين تؤدي واجباً عظيماً ناطه بها ولاة الأمر، وهو تحقيق أحد جوانب الأمن الفكري لدى شريحة من المجتمع، حدث عندها خلل في هذا الجانب فضلّت عن الطريق الصحيح، وأن نجاح المناصحة، وتحقق غاياتها مرتبط بعوامل عدة، منها أن يتوافر في أعضاء لجان المناصحة المعايير التي لا بد أن تتوافر فيمن يقوم بهذا العمل، أهمها العلم بالدين عموماً، والمسائل الاعتقادية والمنهجية والفقهية التي ضل فيها من ضل من الشباب على وجه الخصوص، والمعرفة بواقع المناصَحين وأحوالهم، والحكمة. وبين أن المناصحة لا تنجح إلا إذا راعى المناصِح أحوال المناصَحين، وهو مقتضى الحكمة التي تعد أعظم الصفات التي لا بد من توافرها في المناصِح؛ لما للحكمة من أثر عظيم في نجاح المناصحة، ومن المعايير المهمة أيضا الرفق وأنه من عوامل نجاح المناصحة بأن يكون المناصِح رفيقا بالمناصَح، لما في الرفق من تأثير بليغ في النفوس يجعلها تتقبل النصح.
وأشارت حياة بنت يوسف الصبياني، في ورقتها البحثية والتي جاءت بعنوان "المناصحة الأصل الشرعي والأهداف والأثر" إلى أن مفهوم المناصحة إنما هو صورة من صور النصيحة المأمور بها شرعاً، وأن التاريخ الإسلامي عرف المناصحة منذ وقت مبكر، وبينت أنها إحدى مظاهر الإصلاح التي نشأت في هذه البلاد للمبادرة في التصدي للفكر المنحرف وكشف زيفه عن طريق مقارعة الحجة بالحجة وتفنيد الشبهات، كما تطرقت للمناصحة بأنها أهداف سامية، تعمل لجانها لتحقيقها على المدى القريب والبعيد، مستعينة هذه اللجان بالله - عز وجل - في إنجاح عملها، كما وأن برامج المناصحة القائمة حاليا يهتم بالعلاج والوقاية على حد سواء، مشيرة إلى أن من فوائد المناصحة تثبيت معاني الخير والصلاح والاستقامة في الأمة الإسلامية، وإحلال الرحمة والوداد مكان القسوة والشقاق.
عوامل النجاح
وفي ذات السياق، تحدث الدكتور جبريل بن محمد البصيلي، في ورقته بعنوان "العوامل المؤثرة في نجاح المناصحة" عن أهمية وضوح الأهداف ومعرفة الثمار والغايات، وقوة الإرادة وصحة العزيمة، وجودة التخطيط والتنظيم وتحقق البيئة المهيئة والظروف المناسبة، ثم تحدث عن العوامل التي ترجع إلى الناصح ومن أهمها، العلم، والموضوعية، والخلق الحسن، والإخلاص.
وفي المشاركة الثانية، قدم الدكتور محمد بن عمر بازمول، مقياساً أراد منه - حسب قوله - التحقق من توبة الموقوف، وتراجعه عما كان عليه من أفكار. وذكر أنه استعمل ما يعرف بمقياس ليكرت، وهو أسلوب لقياس السلوكيات والتفضيلات، يستعمل في الاختبارات النفسية، لقياس الاتجاهات والميول، ويعتمد المقياس على ردود تدل على درجة الموافقة أو الاعتراض على صيغة ما. وبين أن هذا المقياس يهدف إلى التحقق من حصول التراجع، وصدق التوبة، ووجود الرغبة في الإصلاح لدى الموقوف. وقال: إن من أهداف هذا المقياس المساعدة في إنهاء الوضع، ومعالجة الذين اشتركوا فيه، ومساعدتهم في بدء حياة جديدة.
وقال عضو لجنة المناصحة، الأستاذ الدكتور هاني بن أحمد عبدالشكور، إن الصفات اللازم توفرها في عضو لجنة المناصحة تتمثل في إتقان التخصص العلمي، ومعرفة الواقع، والتواضع والشفقة والحلم وإحسان الظن، والخبرة وإتقان فن الحوار والجدال والمناقشة.
وفي مشاركته التي كانت بعنوان "العوامل المؤثرة في الاستجابة للمناصحة"، ذكر الدكتور عثمان بن محمد الصديقي، أن هذه البلاد المباركة المملكة العربية السعودية قد حباها الله تعالى كثيراً من الخيرات والبركات، والنعم المترادفات، وأعظم نعمة أنعمها عليها هي نعمة التوحيد والعقيدة الصحيحة والسير على منهج السلف الصالح، لافتاً إلى أن الله ولى على هذه البلاد المباركة ولاة أمر شرعيين يحكمون بالكتاب والسنة، ويسيرون على نهج أسلافهم من السلف الصالح، ويعتزون بذلك في مختلف الميادين والمحافل الداخلية والدولية.
وذكر الدكتور ضيف الله بن هادي الشهري، في مشاركته التي كانت بعنوان "العوامل المؤثرة في الاستجابة للمناصحة"، أن العوامل المؤثرة في الشخص الناصح معرفية، ومهارية إضافة إلى حالته الصحية الفيسيولوجية والنفسية، والدوافع المؤثرة، والعوامل البيئية "الوسط العائلي والمنطقة..".
وذكر الشهري عدداً من التوصيات، منها اختيار العناصر المراد تكليفها بهذه المهمة من ذوي الكفاءات والعلم الشرعي الواسع، واختيار الشخصيات التي لها سمعتها الطيبة في المجتمع، وتتمتع بالقبول أو الشخصيات غير المشهورة بتصريحاتها الحادة تجاه هذه الفئة، ويفضل الشخصيات التي صرحت بتصريحات ناعمة، والاستعانة ببعض الشخصيات العلمية من الدول التي ظهر فيها هذا الفكر وانتشر، ومارس أفراده الأعمال الإجرامية المخلة بالأمن، مع التأكيد على اجتيازهم لدورات تأهيلية مناسبة، يتم فيها تعريفهم ببعض خصائص المستهدفين هنا، وخلاصة أفكارهم.