هو (البدوي سعيد بن حميدان، الكاتب الشهير، والذي فاز مؤخراً بجائزة عن كتابه الأخير "اسمك الأخير يا وطن"، وقد أودع قيمة الجائزة لدار الأيتام الوحيد في محافظة قرية والدته): هل فهمت ما أقصده يا طوني من حديثي معك عما يحدث في مصر؟ من الحرية التي لم تتعودها الجماهير، من الضحك على ذقون الناس في اعتصام رابعة مثلاً؟ أخبرني ما الذي تقرأه من تاريخ قادم للوطن العربي؟ من كل ما يحدث من معارك وحروب وحب وانعدام للإنسانية التي عشنا من أجلها. أنظر إليّ أنا تحديداً، فأنا لم أكن سوى بدوي عشت طفولة يراها البعض مريرة أو صعبة مع جدي، لكني الآن أجد في ذلك الماضي عبقاً وجاذبية لما أنا عليه الآن، لم أعِ لهذا التطور إلا حينما قدمت للعاصمة، قبلها كنت مجرد صبي يتقن فن الصبر، لا ينتظر شيئا من أحد، ولا يريد العطايا إلا من الله، الآن الوضع تغير، صرت مدنياً وصرت أيضاً سياسياً، مصر تعني لي الشيء الكثير، إنها قلب الوطن العربي!

هو (طوني سربيان، إعلامي شهير، أبيض حليق الذقن، يرتدي قميصاً وجاكت ويتحدث أربع لغات) يرد على سعيد بتعجرف كبير: ماذا تقول مصر قلب الوطن العربي؟ لا أظن ذلك، لا شيء يبقى على حاله، أنت لا تزال تفكر بعقلية الرجل العربي القديم، الذي يظن أن مصر هي القلب والعقل والذراع، الآن كلنا نملك من هذه الخارطة نصيبا!

هو (البدوي): طوني أفهمني لست ناصرياً أو تطلعياً أو وفدياً أو حتى حزبياً، أنا لا أنتمي إلا إلى الله حتى بعد أن جئت للعاصمة منذ خمسة وعشرين عاماً وعشرة أشهر، وكان عليّ أن أستحم بالصابون المعطر، وأن أسرح شعري كما يفعل بقية الشباب وأرتدي ثوباً مكوياً، تعلمت على أن أحب عالمي اللاممتد، ولو كنت رجلاً بدوياً للحظة لفهمت ما أقصده، فالبدو لا ينتمون إلى سلطة سوى سلطة الصحراء نفسها، إننا نتّحد مع الكون نفسه، لم نكن يوماً مهمشين من هذه الحياة حتى حينما كنا نتذوق الفقر بعشرة أصابعنا، كنا نبني لأوطان جديدة وكنا نفهم أنه سيكون لدينا دور كبير في المئة عام القادمة.

هو (الأبيض) يسأل سؤاله وهو ينقر بأطراف أصابعه النظيفة على شاشة الجوال، وينظر إلى سعيد من طرف عينه: وأنت أيها الرجل البدوي الجديد، ماذا تفعل الآن؟

هو (البدوي) وقد تجاهل نظرات الأبيض، أكاد أشك أنه لم يفهم ماذا تعني كل تلك النظرات القاتمة تجاهه: أربي أطفالي السبعة وأهتم بشؤون والدي، وأكتب كتباً للشعب، وكنت قبلها مدرس فنية واستقلت من عملي ووظيفتي، فقد وجدت أن الشعب أهم من النخلة والجبل على كراسة الرسم في حصة مملة يسألني فيه الطلاب عن مقالاتي اليومية التي أنشرها، ويبلغونني بإعجاب أولياء أمورهم، كنت أخجل من أسئلتهم، نعم (يضحك عالياً) البدو يخجلون يا طوني، يخجلون من المديح ومن الثناء، وأنا لم أتعود أن يقول لي أحد كم أنت جميل وبهي إلا والدتي، حتى زوجتي أخبرتها أن تبقي مشاعرها بداخلها، لأنني لا أريد أن أتعرّف عليها الآن، طالما والدتي على قيد الحياة، حينما تفارق "حلوة اللبن" هذه الدنيا الماسخة بعد عمر طويل، حينها سأطلب من أم مسعود أن تعلن عن كل مشاعرها تجاهي، حينها سأكون محتاجاً لكل قطرة من مختلف مشاعر العالم، أما الآن، فلا أظن أني بحاجة إلا أن تكون أم مسعود بجانبي.

هو (الأبيض) وقد كان يظن أن أحاديث البدوي إلا تلميحاً لهُ للظهور في برنامجه: ومالك أنت ومال السياسة، والآن أشرح لي كيف أصبحت مدرساً للفنية، وأنا كما فهمت أنك لم تكن رساماً في حياتك؟

هو (البدوي): أحياناً الوطن يحتاج لأن يضعنا حيثما يريد، وأنا تعلمت أن أعطي للوطن كل ما يريد، حتى لو كنت لا أملك شيئاً، كان يبعث لي عبر الجوال رسائل يطلب مني أن أسهم في البناء معه..

هو (الأبيض): الوطن؟

هو (البدوي): نعم الوطن يا طوني، كان يطلب مني أن أمنحه خمسة ريالات لكي أسهم في مشروع خيري، وكنت أنظر في محفظتي فأجد عشرة ريالات، أعطي أصغر أطفالي حميدان خمسة وأعطي الوطن الخمسة الأخرى، وأبقى أنا دون ريال واحد، هذا هو البناء، هذا هو الحب، هذا هو أنا الكاتب الذي اكتشف فجأة أنه يتصدر ضمن قائمة أكثر الكتاب تأثيراً في الوطن العربي.

(لم يعجب طوني ما قاله الكاتب سعيد بن حميدان، حتى إنه أطال النظر إليه، وما زلت لا أفهم لماذا لم يفض سعيد الحوار معه حتى هذه اللحظة، ولم يقم على ضربه أو ركله مثلاً، بل بدا أنيقاً وجميلاً وبهياً كما عرفه الجميع منذ أن جاء إلى العاصمة ليعمل ويبدع ويكتب، وأيضاً كما اعتدت على أن أراه على شاشة التلفزيون في البرامج القليلة التي كان يوافق على الظهور عليها).