الإمبراطور الياباني "ميجي" ابتعث أبناء شعبه في القرن الثامن عشر لدول أوروبا وأميركا، وقال لهم "اذهبوا إلى الغرب.. وتجاوزوه" وهو ما تحقق بعد ذلك، ونتاج ما نراه الآن من نهضة وتطور في اليابان التي أصبحت مضرب المثل فيما يتعلق بتأثير الابتعاث إيجابا على نمو الدول وازدهارها.
استطاعت اليابان بفضل سياستها في الابتعاث الخارجي، وخلال فترة قياسية، من النهوض بعد سقوطها الذي خلفه الهجوم النووي على هيروشيما وناجازاكي، والذي حطم كل أحلامهم في لحظات إلى الصعود المدهش بصناعاتهم واقتصادهم.
اليابان ليست الدولة الوحيدة التي أثر الابتعاث إيجابا عليها، بل نافستها في هذا المجال الصين والهند وكوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة، ونستطيع أن نقول: إن سياستهم في الابتعاث وإيمانهم بأهميته ومدى تأثيره في نهضة أوطانهم، هو من أهم مسببات نجاحهم الذي يتفاخرون ويتباهون به الآن.
كل العقلاء يجمعون على أن النفط الذي تعتمد عليه مشاريعنا التنموية في العصر الحالي موقت، وسيصبح مجرد اسم في تاريخ الطاقة بمجرد أن يأتي أول مصدر للطاقة يكون بوسعه أن يصبح بديلا له، أو عندما تنضب آبار النفط وإن طال بها الزمن، ولذلك نجد دولتنا وفي عصر خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ـ حفظه الله ـ تستثمر للمستقبل في الإنسان الذي مهما أنفقنا من ثروات على تطويره وتعليمه، فإنه لن يكون شيئا أمام المكاسب التي سنجنيها من منجزاتهم ومخترعاتهم وإبداعاتهم، التي لن تكون مصدرا لثرائنا العلمي والاقتصادي، إلا إذا استطعنا أن نستثمر عودة المبتعثين بشكل إيجابي وسريع ومحترف، مثلما فعلتها دول الشرق الآسيوي.
أحد شباب الوطن الذين تربطني بهم صلة قرابة أُغلقت في وجهه كل الفرص التي طرق أبوابها بحثا عن إكمال الماجستير والدكتوراه في مجال الأدب الإنجليزي، قبل أن تُقر الدولة برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي، الذي ما إن تم إقراره عبر وزارة التعليم العالي حتى كانت فرصته التي انتظرها طويلا، وتغرب في المملكة المتحدة ودرس بها حتى تخرج بشهادة الدكتوراه وبتفوق في إحدى أهم الجامعات البريطانية. تخصصه في الأدب الإنجليزي جعلني أنتظر عودته بشغف، وبترقب للكتب التي سيترجمها لنا، والبحوث التي سيجنيها وطننا إثر بحوثه ومقالاته في مجال الأدب الإنجليزي العريق، كنت أترقب أن تكون جهوده وخبرته خير عون لطلاب وطالبات كليات اللغات والترجمة في جامعاتنا السعودية، ولكن خاب ترقبي وأصبت بإحباط بعد أن رأيته وقد اتجه للمجال الإداري في إحدى الجامعات، التي عينته كنائب لعميد إحدى الكليات التي ليس لها علاقة بتخصصه من قريب ولا من بعيد، وحتى الآن كلما نلتقي أتمنى أن أسمع منه عن أهم وسائل تعليم اللغة الإنجليزية الحديثة، أن أراه وهو يناقش أحد طلابه في رواية "كبرياء وتحامل" لجاين أوستن أو في قصيدة "الفردوس المفقود" أو عن سيرة أجاثا كريستي أو مسرحيات شكسبير الخالدة، ولكنني أجده يتحدث عن معايير القبول في الجامعات وطرق التقديم وخطواته، وأساليب منع تلاعب بعض الموظفين في أحقية القبول، يحضر مؤتمرات دولية في مجال الإدارة، أصبح يبحث في كل شيء إلا في مجال تخصصه الحقيقي، أنا لست ضد ما يفعله الآن من أجل خدمة الجامعة التي ينتمي إليها، ولكنني ضد أن يكون من أفنى عمره في مجال الأدب الإنجليزي أن يعمل في عمل إداري بحت، فالأحق بهذا العمل هم المتخصصون فيها، ونفقد إثر ذلك كل ما استثمرناه فيه، ونشغل وظيفة يستحقها خريج في علم الإدارة.
وطننا الغالي حينما يستثمر في أبنائه وينفق المليارات من أجل تعليمهم في أقصى دول العالم، فإنه ينتظر أن يعود المهندس المعماري ليضع بصمته في مجاله، لا أن ينشغل بإدارة شركة لتأجير السيارات، وأن يعود المحامي ليدافع عن الضعفاء ويرفع نسبة الوعي بالحقوق، لا أن نراه وقد انشغل في مجال الإعلام المرئي والبرامج الحوارية، وتنظيم المؤتمرات التي ليست لها علاقة بمجال الحقوق، وطننا لن يستفيد من برنامج خادم الحرمين الشريفين إلا عندما نرى دكتور الأدب الإنجليزي وقد انشغل في مجاله وأضاف المزيد لنا، ونرى الطبيب بين المرضى لا في مكتب الإدارة، ونرى كل عالم عائد من الابتعاث يعمل في مجاله وتخصصه فيبدع ويطور، لا أن يصبح عبئا على الوظيفة التي يشغلها.
وزارة التعليم العالي قننت الابتعاث، وجعلته في التخصصات التي يعلن الوطن عن حاجته للمؤهلين فيها باستمرار، فمن العبث أن يعود المبتعثون ـ وبعد كل ذلك التخطيط والجهد والوقت ـ نستغل علمهم ونقاط قوتهم في غير محله، فنصبح كمن يوصي المهندس الكهربائي بالبحث عن أسباب التعصب الرياضي، ونوصي عالم الاجتماع بدراسة سبل توفير الطاقة الكهربائية؛ فلا نجني بحثا واقعيا عن التعصب الرياضي، ولا دراسة وافية عن سبل توفير الطاقة الكهربائية.
إن عدم استثمارنا لنقاط قوة المبتعثين، التي تتمركز في تخصصاتهم التي تغربوا وتعبوا في سبيلها، فإننا كمن يأمر العالم بأن يكتم علمه ونحثه على ألا يستفيد الوطن من خبرته وتجاربه، ونجعله يخل بالميثاق الذي قال فيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ما أتى الله تعالى عالما إلا أخذ عليه الميثاق ألا يكتمه".