عندما بايعنا عبدالله بن عبدالعزيز، ملكا علينا وخادما للحرمين الشريفين؛ طالنا منه الخير والأمن والوفاء. لِما كان يتمتع به عبدالله من الحكمة والرحمة والمحبة وبعد النظر. فكما يقول المثل العربي "أرسل حكيماً ولا توصه"، وأقول أنا "بايع حكيماً ولا تحرصه"، فالحرص والوفاء من طبع وشيم الحكماء. تعداد مناقب عبدالله بن عبدالعزيز، لا يكفيها مقال، ولا حتى كتاب واحد. ولذلك سأركز على خطوتين استراتيجيتين خطط لهما ونفذهما هو بنفسه وتحت إشرافه. الخطوة الاستراتيجية الأولى، هي إطلاق مشروع خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي. والخطوة الاستراتيجية الثانية هي توليته صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز، وليا لولي العهد.

وهذان قراران استراتيجيان بامتياز، حيث يتداخلان مع بعض، ويهدفان لهدف واحد، وهو تنمية الإنسان السعودي وتطويره وحفظ أمنه وسلامته وتأمين مستقبله. وهاتان الخطوتان هما الدعامة المضمونة وصمام الأمان، بعد توفيق الله، لتنفيذ الخطط التنموية الطموحة القادمة للمملكة، على أكمل وجه، والرقي بها ودفعها للأمام، لتتجاوز ما يتوقع منها، وتؤسس لقواعد ثابتة ومتينة لولوج عصور المستقبل القريب منها والمتوسط والبعيد عنها. إن المستقبل، كما ينبئ عنه الحاضر؛ سيكون صعبا للغاية من حيث شدة التنافس والتحدي بين شعوب العالم، خاصة الذي سبقنا منه بالعلم والتطور بعقود إن لم نقل بقرون.

فنحن لسنا أمام خطوات نخطوها، لولوج عالم المستقبل؛ كون حاضرنا، لا يسعفنا للحاق بمن سبقونا. يمكن أن تسعفنا الخطوات لو كنا نجري على قدم المساواة، مع العالم المتطور. ونحن حتماً لسنا كذلك؛ إذاً فنحن بحاجة إلى قفزات وقفزات، للحاق بالعالم المتطور، حتى نتمكن من السير معه على قدم المساواة، عندها تكون حالنا كحاله، ونتنافس معه على ولوج مستقبل المستقبل ونحن مطمئنون وواثقون. حاضرنا لا يبشر بذلك؛ ولكن مع همة وعزم قادتنا وهممنا وإصرارنا لتغيير حالنا إلى حال أفضل وأفضل، يخلق الله حينها ما لا تعلمون.

برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي؛ أرى أنه نواة صادقة للقفزات القادمة، التي سنقفزها بكل وثوق لمستقبلنا؛ بعد أن نودع حاضرنا المهترئ، بدون أسف عليه ولا رجعة. فخيرة من شاباتنا وشبابنا الأكفاء والأوفياء؛ والذين ينهلون أصول علم المستقبل من أنقى وأعذب ينابيعه في العالم المتقدم؛ سيعودون لنا وبكل فخر واقتدار ليقودوا مع قيادتنا الرشيدة قفزاتنا القادمة للمستقبل. وإن تأسيس وبناء جامعات لدينا في كل مدينة وحتى بلدة؛ سيدعم مبدأ التنمية الشاملة؛ والتي لا تختص بها منطقة دون أخرى، من أجل ألا تضيع علينا أي مواهب أو عقول وطنية مبدعة وعالمة طموحة، نحن بأمس الحاجة لها، في أي مكان في مملكتنا كان. التعليم الخارجي والداخلي لدينا؛ هما رجلانا التي نطمح في القفز بهما للمستقبل. وعبدالله بن عبدالعزيز بايعناه، ووضع أرجلنا على الطريق الصحيح الذي نستحقه ويستحقه وطننا؛ من أجل أن نسير بدروب مستقبلنا الوعرة بثقة من دون خوف أو تردد أو وجل.

عندما بايعنا عبدالله بن عبدالعزيز الوفي الأمين، لم تقر له عين أو يهدأ له بال، حتى ضمن لنا بجهده وحرصه واجتهاده، والضامن هو الله، المستقبل السياسي لمملكتنا الغالية. فرسم لنا بكل جد وإخلاص، خارطة طريق سياسية واضحة المعالم، نتبعها ولن تزيع بنا بإذن الله قدم من بعده. فتوليته في البداية سلمان الحكيم وليا للعهد، كان خياره خيارا موفقا، لا يتجادل حوله وطنيان. وأعقب ذلك وأكد باختياره لولي ولي العهد، صاحب السمو الملكي مقرن النبيل. لكون المنطقة من حولنا تتحرك تحت رمال متحركة تموج بها من شمال ومن يمين؛ أراد أن يتأكد أننا ثابتون في أرضنا ونحن من يحرك الرمال يميناً شمالاً ولا تحركنا هي.

من لا يفقه السياسة، لا تفقهه السياسة؛ ومن لا تفقهه السياسة؛ تفقهه النحاسة والتعاسة، وعبدالله بن عبدالعزيز، فقيه سياسي كابرا عن كابر. كان المستشرق البريطاني عبدالله فيلبي، يقرأ على المغفور له الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه وأسكنه فسيح جناته، مقتطفات من كتاب "الأمير" للعالم السياسي الإيطالي الشهير، نيكولاي ميكافيلي، فأستوقفه الملك عبدالعزيز وقال له: إن ما يذكره صاحبك في كتابه هذا، قد درسوه لنا أباؤنا وأجدادنا؛ قبل أن يولد صاحبك هذا. إذاً فعبدالله بن عبدالعزيز وسلمان بن عبدالعزيز ومقرن بن عبدالعزيز؛ أعمارهم السياسية لا تحسب، حسب أعمارهم الزمنية؛ فهم سلالة مؤسسة سياسية عريقة؛ عمرها أكثر من قرنين ونصف من الزمان، أي بعمر أوروبا الحديثة. ولذلك فلا غرابة أن تكون مملكتنا واحة أمن وسط الرمال المتحركة. إنها وبحق معجزة فوق الرمال؛ أسسها وشيدها، عبدالعزيز، صاحب العزم والهمة والكمال.

إذاً فنحن عندما نبايع ملكا أو ولي عهد أو ولي ولي عهد، فنحن لا نبايع شخصا بعينه فقط؛ وإنما نبايع مؤسسة عريقة في حكمتها وسلسة بسياستها وثاقبة ببعد نظرها. نحن نبايع قرنين ونصف القرن من التجربة السياسة الناجحة الآمنة والمتمكنة في أدائها والواثقة من عطائها. ولا يمكن بمثل مؤسسة سياسية عريقة كهذه أن تترك البلد للمجهول أو تغامر بمكتسبات شعبها؛ بشكل لاعقلاني ولامعقول. مؤسستنا الوطنية الحاكمة لها قدرة مشهودة؛ في تمكنها من بناء نفسها، وإعادة بناء نفسها، برغم كل العثرات والصعوبات التي جابهتها، والتي حاولت تفكيكها وتحطيمها كذلك.

إننا نعيش الآن حقبة بناء ما بعد البناء، أو بناء ما فوق البناء؛ فمن لا يفهم أو يدرك ماذا تعني حقبة بناء ما فوق البناء؛ فهو ليس منا، أو هو يعيش خارجنا أو هو خارج عنا ولا يريد أن يكون هو منا. مرحلة بناء ما فوق البناء لا تتحمل تهميش أي قدرة أو طاقة وطنية منا. إنها حالة استنفار لجميع الطاقات الوطنية العلمية والعملية والفاعلة والإبداعية الخلاقة، رجالنا ونسائنا سنتنا وشيعتنا حضرنا وبدونا، ومن شمالنا لجنوبنا ومن شرقنا لغربنا لوسطنا. من كل حسب طاقاته وإمكاناته ولكل حسب جهده ومكتسباته، لا غبن ولا تثريب، ما دام إنسان هذا الوطن ويحمل هويته. عبدالله بن عبدالعزيز، قال: الوطن للجميع؛ ولهذا بايعته شغاف قلوبنا قبل أن تبايعه راحات أكفنا. فلك منا يا عبدالله دوماً السلام وعليك منا السلام وكل عام وأنت والسلام ووطنا بخير، والسلام.