كان مجرد الحديث عن رئيس جمهورية يقف على مسافة واحدة من أطراف الصراع يثير استياء المؤتمريين وحنقهم؛ وكثيرا ما عبر هؤلاء عن ضيقهم بالصفقات التي ينفرد الرئيس السابق بعقدها مع الإخوان أو البَعث أو غيرهما من الأحزاب على سبيل كسب الولاء الظاهر وتأجيل النقمة المضمرة.. ولطالما حدث ذلك على حساب المصلحة العامة، وأدى إلى الإخلال بالتقاليد الديموقراطية وإثارة الشبهات حول تلاعب الحاكم بفحوى إرادة الشعب.

وبدخول البلاد مرحلة وفاق استوعبت فرقاء الصراع، ظهر أن ميلا ملحوظا لشوكة الميزان ينحو لصالح جماعة الإخوان، وكلما تفاقم التذمر من هذا الميل زاد نهم الجماعة، ومتى أوقفت الشوكة حركة ميلها تحول ذلك إلى خطاب ديني متوعد وتلويح انتهازي بإثارة الاحتجاجات وتوزيع المنشطات الثورية! وبدلا من تفهم الأسباب الموضوعية لموقف الرئيس هادي، راح جزء من المؤتمر يتبنى سياسات متشنجة وردود فعل غير مدروسة، غذاها المشترك وطورها الاشتراكي واقتصر مردودها على الإصلاح.

للصراع في اليمن قصة طويلة لا يكتوي الشرفاء بفصولها المؤلمة فحسب، ولكنهم يتحملون تبعات روايتها في مسلسل أحزانهم المنقولة من مرحلة لأخرى.

جل اليمنيين لا يتنفسون برئتهم الطبيعية، ولهذا يصبح التعلق بوسائط التنفس الاصطناعية ضرورة حياة، ريثما تستعيد أعضاء الجسد المعتل قسطا من وظائفها.

في السياسة ما يؤخذ ويرد، ومن طبائع الظروف الاستثنائية في العربية السعيدة أن تضفي قدرا من الأعباء الطارئة فوق كاهل الشعب، في ظل معادلات معقدة، وتوترات بعضها مفتعل لغرض الإرباك والنكاية وبعضها الآخر ممنهج لا يرى من مجمل أحوال الوطن غير مصالحه ولا من الحالة الوفاقية غير قيمة مضافة إلى هدفه الكلي في الانقضاض على مفاصل الدولة وإعادة فلترتها وفق رؤيته المغلقة.

لهذا لم تعد المقارنة بين امتطاء الليث وحكم اليمن محل استشهاد أحد من الملمين بمجريات الوضع الراهن، إذ إن ما يعتمل على ساحة الصراع ليس نتاج لحظة عاصفة، لكنه حاصل جمع الأرصدة المرحلة من دابر خمسة عقود ركمت ثارات سوداء، وكدست مورثات متخلفة، ووحدت بؤر تطرف، وقوضت فرصا تاريخية لبناء وطن قابل للتطور قادر على تأسيس دولة بمعنى الدولة الضامنة لا الدولة المستضعفة في كنف الاستبداد.

أراد هادي القيام بدور رجل الإطفاء، ولم تخل وسائله من مواد مركبة لا ينصح باستخدامها في إطفاء الحرائق، وأكاد أجزم أنه حرص على وضع مصلحة الوطن نصب عينيه، حتى وهو يجتهد على نحو لا يحتمل حسن النية!

وفي أحوال اليمن المتقلبة، لا شيء يمكن اقتطاعه لمصلحة الوطن، وعندما يفضي الحوار لإدخال تعديلات على إطار الشراكة في حكومة الوفاق تحضر عاهة الاستحواذ، وتبرز أعراض حرب أو تشتعل جبهة جديدة للصراع.

قلنا إن واجب السياسة إخماد الحرائق، والرئيس هادي يبذل وسعه من محور السياسة ويضطر للمدارات ويقدم الهامش المتاح أمامه لتفادي حماقات قوى الصراع، وكثيرا ما وضعته تلك القوى في موقف حرج أمام شعبه، وغالبا ما حملته الضغوط على غض الطرف عن إعاقات مكشوفة تستهدف تعطيل قراراته الرئيسة، الأمر الذي يضاعف من امتعاض حزبه الذي ينظر لهادي بتوجس، ويريده أحد شيئين مع أو ضد ما دونهما شبهة تستلزم الفجور!

شوكة الميزان تميل في حدود ممكنات السياسة.. أما أن يستدرج الرئيس للزج بالقوات المسلحة في معمعة الصراع الحزبي ومواجهة طرف لخدمة آخر فلا سبيل للتذاكي عليه.

وعند هذا المفترق تكتمل حلقات الحصار، ويغدو الرجل هدفا مشتركا لمختلف أطراف الصراع شأن رؤساء سبقوه بالاعتماد على ثقة السواد الأعظم من أبناء الشعب، لكنهم لم يحسنوا العمل على هذه الجبهة أو يحيلوها إلى ميزان قوة فاعلة في حركة الواقع وصياغة معادلاته.

بيد أن الذين قالوا يوما "والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين" بدلوا قناعاتهم وانتقلوا من حوار السياسة إلى حوارات الخنادق، وما يلفت الانتباه ألا أحد من قوى السلاح يقف موضع الدفاع عن النفس، لا "أنصار الله" يدرؤون ظلما لحقهم منذ أحداث 2011، ولا الإخوان المسلمون – عفوا التجمع اليمني للإصلاح – صدوا عدوانا لا تبرير له في ممارساتهم.. وقطعا فإن معظم بؤر العنف ومراكز النفوذ بالعصبية وقوة السلاح تناسلت من رحم هاتين الجبهتين؟ ولئن تبدّت صورة تنظيم القاعدة أو بعض الفصائل المتطرفة في الحراك الجنوبي ضمن سياق مختلف وأطوار متفاوتة من الاستهتار بقيمة الحياة، إلا أن جذوتها تمتد بسبب إن لم أقل أسبابا وثيقة بمنبع التخلف الذي يفرزه التداين السياسي والمذهبي المحتفى بهما في مؤتمر الحوار الوطني أكثر من الأحزاب المدنية المشمولة بقرار إقصائي غير معلن بجريرة النقاء الوطني!

لكن.. لماذا غفلت التسوية السياسية إدراك الحقيقة الأكثر تأثيرا على حركة الأحداث، وقل إن شئت الأشد تعويقا للمسار السلمي المفترض اعتماده وترسيخ مرتكزاته حتى يصبح الطريق سالكا ومقومات الانتقال إلى اليمن الجديد مكتملة، وشروط إنجاز مهام التغيير للأفضل حاضرة بهذه الصورة أو تلك.

هل غاب هذا عن المبادرين من أشقاء اليمن وأصدقائه، أم إنهم لم يعثروا خارج مربع الماضي بأيدلوجياته المعمدانية وميليشياته المسلحة على أشواق حبيسة تنشد التغيير والسلام، ولم يجربوا طريقة كريستوفر كولومبوس لاكتشاف وطن مدمى يستحق المساندة.

إننا نسأل بمرارة.. ما الذي دعا الخارج للتعاطي مع أحداث 2011 من أضيق محابس الصراع؟ وكيف يتعافى بلد ـ أي بلد ـ إن كان القائمون على تطبيبه أشد توعكا منه، وأكثر انغماسا في ترع الماضي ومكابراته وآثامه وأزلامه.

أعود إلى شوكة الميزان لعل قلبا يرق وأخا يشفق، وبعيدا على مخاتلاته يَصْدُق. يتبع..