رحل ماركيز قبل أيام، توقف العالم لتأبينه واستذكار ما أضافه من جمال للإنسانية، فحين يرحل مبدع كاتب على الأغلب تنكفئ قليلا.. قليلا غرائز الحيوانية السياسية المتحكمة في سير الكون، تتراجع عجلة أنياب الشركات "العولمية"، وتنظيرات حركة رؤوس الأموال على اتفاقيات السوق المشتركة، ومناطق التجارة الحرة. فأضواء النيون أقل بريقا بكثير من حرارة الحروف، من يد انغمست في الحبر والأخيلة، ناطحات السحاب أدنى بمراحل من فرحة روائي شاب نشر نتاجه للتو. المبدعون يؤطرون التوحش ويحجمون جشاعة الاستحواذات، جاء "فاتسلاف هافيل" من المسرح والسجن ليعيد تشكيل أوروبا المتصالحة المتسامحة، ويفكك الستار الحديدي الأحمر، ومن ثم بلده "تشيكوسلوفاكيا". أوروبا التي ساد مزاجها الروائي الكئيب العالم، "كافكا السوداوي، كامو العدمي، كولن ويلسون الساخط"؛ حتى جاءت الواقعية اللاتينية السحرية متسلسلة من "بورخيس وجورجي أمادو"، متألقة مع ماركيز ليقطف ثمارها "كويلهو، وفارجاس يوسا، وإيزابيل الليندي"، في قارة كل ما فيها ثوري وساخط وعنيف، جاءت الموجة الروائية الفاتنة، اكتشف قراء العالم مناجم سحرية ومساحات إضافية للخيال بنفس إنساني وقوة شعورية هائلة، تفاصيل غير التفاصيل، شديدة الفردانية التي حفل بها الأدب من قبل، ومع ماركيز تحديدا تحول المثقف للنجومية الشعبية، المبدع الذي يشبه الناس وتتنازعه الدول والمجتمعات، ويتودد له الزعماء والساسة، رحل "غابريل غارسيا ماركيز" بعد أن كوّن وعي مرحلة، ومزاج جيل، وذائقة قرائية عربية، لمست في عباراته وخياله وشخوصه وما يقترب من تفاصيلها ويتقاطع معها في أشياء، رحل في خبر عاجل، ولساعات توقف العالم عن تعاطي السياسة وتداول الاقتصاد، ليؤبن الرجل الذي جعل الحياة أوسع قليلا، والدنيا أطرى بمراحل، والحروف براقة مشعة، لا تفنى ولا تستبدل، قابلة للطرق والسحب والتشكيل، كأبهى ما تكون راكضة على الصفحات التي بدت كسهول بيضاء.