رحل الشيخ والمفكر والأستاذ الأكاديمي والكاتب المبدع "زين العابدين الركابي" نهاية الأسبوع الماضي، وكان لا بد أن أتوقف عند هذا الحدث بكثير من التأمل، فبرحيله فقدنا كثيرا - رحمه الله - وأسكنه فسيح جناته وبارك لنا في ذريته وفيما تركه لنا من علم وفكر.
وأعتذر من متابعي ومحبي الدكتور الشيخ "زين العابدين" - رحمه الله -.. فمن أنا لأتحدث عن رجل بقامته وعلمه وسعة صدره وبعد فكره الشمولي، فقد كان في حياته بيننا مثالا للعالم المتواضع الذي أحاط بفكره جوانب مهمة وحساسة، وطنية وإقليمية وعالمية، وكان حريصا على تبرئة الإسلام من كل ما يشوبه من افتراءات، فعالجها بتروٍّ وتدبر، وحارب الإرهاب وفند الدعاوى التي تصفه بالجهاد الإسلامي، وساند الشباب ودعا لفتح حوار بين أفراد المجتمع خاصة الشباب منهم، فأشار في إحدى مقابلاته إلى أننا كمجتمع بحاجة إلى الحوار، فثقافة الحوار مفقودة في الغالب، في بيوتنا وفي مدارسنا ومؤسساتنا، فالحوار هو "البديل الوحيد" لسيادة وجهة نظر واحدة في أمر يحتمل ستين وجهة نظر معتبرة، ولإيثار الصمت أو البكم المطلق، أو خيارنا للوصول للتفاهم عن طريق اعتمادنا على الملاكمة اللفظية.
كما أشار إلى أننا في ممارسة حوارنا علينا كمجتمع تبني التجرد من الهوى والنزوع إلى الإيذاء، فقد قال في هذا الشأن: "يلزم التواطؤ الصدوق الوثيق على حذف مفردات السوء والفحش والبذاءة والقذف والتعبير من قاموس الحوار، فليست ثمة قاعدة علمية ولا لغوية – ولا خلقية طبعاً – توجب حشر الشتائم في سباقات الحوار". كما أضاف - رحمه الله -: "والارتقاء بأسلوب الحوار – روحاً ولغة – من أعظم مؤهلات الحوار الذي إن أخل به امرؤ إنما أخل بعظيم لا عوض له، إذ الحوار ليس مجرد شهوة كلام، ولا جموحاً إلى إفحام الآخرين، ولا صراخاً يصيب صاحبه بالذبحة الحلقية، ويصيب الطرف الآخر بـ"التلوث السمعي".
وقد طالب المجتمع بكافة مؤسساته معالجة الإحباط الذي أحاط بكثير من شبابنا فقال في إحدى مقابلاته: "إذا كان للشباب هدف، وعنده ما يشغله من معالي الأمور والواجبات، فليس للإحباط إلى قلبه سبيل، لذلك ينبغي للجهات المعنية بهذا الشأن: من تعليم وتثقيف وتوجيه وتدريب: أن ترسم خطة مشتركة عمادها أمران: تحديد أهداف تتناسب مع طموحات الشباب وتطلعاتهم.. وأهم ركيزتين في هذه الخطة: حسبان الشباب ذكياً غير غبي، محترفاً غير تافه.. والأمر الثاني إيجاد أوعية عمل عام تشغل الشباب شغلاً يسد عليه منافذ الإحباط.. فإن الكادح المشغول لا وقت عنده للإحباط".
وللدكتور زين العابدين عدد من الكتب من أهمها "الأدمغة المفخخة"، الصادر عن دار غيناء للنشر، فقد قسم كتابه - رحمه الله - إلى فصول ثلاثة، عنوان الفصل الأول "ضد الإرهاب الأقرب: في الزمان والمكان" تحدث فيه عن: النبي أعلى صوتا ضد الغلو والعنف، مصادر العنف الذاتية: تحريف مفهوم الجهاد، وتحريف مفهوم الآية الموصوفة بآية السيف، الإرهاب: متعدد الجنسيات، وفي الفصل الثاني الذي عنونه المؤلف "قبل قارعة 11 سبتمبر" ضم عدة مواضيع فكان منها تكتيك الخلط بين الإسلام والغلو، جريمة أو كل ما هو قتل للبشرية كلها، الفكر السياسي المفخخ، الحجة ضد الغلو، أما الفصل الثالث فكان عنوانه "في وجه القارعة ومجابهة مسببها ومستغليها" وكان من مواضيعه: معا ضد الإرهاب.. ولكن بأي عقلية، المعاهدة الدولية لمكافحة الإرهاب المفهوم.. إلخ، أما كتابه المعنون بـ"سلمان بن عبدالعزيز الجانب الآخر" وقد صاغ فصوله بحكم قربه من صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله -، وعمد من خلاله رصد رؤيته الخاصة لشخصية أمير الرياض وتحليلها، ولا شك أن المطلع على هذا الكتاب سيدرك كثيرا من خصال صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد - حفظه الله -.. كما سيقف على كثير من الصفات الطيبة للكاتب وعلى استقلاليته في طرحه للأفكار - رحمه الله -.
إن عالمنا الشيخ زين العابدين رجل رفيع القيمة بيننا جعله الله في مقام العليين عنده وجمعنا به في فردوسه الأعلى، فقد وجدنا في طرحه الاحترام والتقدير حتى للمخالفين، فكانت حجته دوما قوية واضحة بينة.. تحمل للقارئ وسطية الإسلام وثباته.
الدكتور والشيخ زين العابدين الركابي كان مواطنا ومفكرا وعالما من الدرجة الأولى، أما تواضعه فمدرسة تستحق أن تدرس، حسبه أنه كان يبادر الكاتبة أو زوجها باتصال هاتفي في الأعياد، في حال تأخر اتصالهما به لساعات معدودات وليصل صوته إليهما مهنئا حاملا التقدير والاحترام، ولكم أن تتخيلوا مدى الإحراج الذي يعترينا من أمثال تلك المكالمات.. والمؤلم أننا لم نعلم بمرضه الأخير - رحمه الله - إلا بعد وفاته، رحمك الله يا شيخنا وأدخلك فسيح جناته، ألهمنا المولى - سبحانه - وأسرته الكريمة الصبر والسلوان، وأخيرا أستطيع أن أقول إن أمثال الشيخ "زين العابدين الركابي" إن غابوا عنا بأجسادهم فعطاؤهم وسيرتهم الطبية تؤكد أنهم باقون معنا وبيننا لا يغيبون.