المتسوّل والمتسولة هما من أكثر الأفراد خضوعا للثقافة السائدة باعتبار أنهما يتحركان من أجل الحصول على المساعدة من عموم الناس، ومن أراد المساعدة فعليه أن يرضي العموم ويستثير عطفهم في ذات الوقت. أتحدث هنا عما يمكن أن يُسمّى بالتسوّل الاحترافي، أي التسوّل الذي يقوم به أفراد لديهم القدرة على قراءة الناس والخروج بطريقة منظّمة للحصول على مساعداتهم. أما المتسولون الطارئون مثل مدمني المخدرات أو شديدي المرض النفسي فإنهم سرعان ما يفارقون ساحة التسول لعجزهم عن إرضاء واستعطاف العموم. إذن مهمة التسول هي مهمة تقوم على قراءة دقيقة للمجتمع وبالتالي فإنه يمكن قراءة المجتمع من خلال متسوليه ومتسولاته باعتبار أن من خلالهم يمكن التعرف على ما يرضي هذا المجتمع ويستثير عطفه وفي ذات الوقت ، على ما يغضبه ويثير اشمئزازه ورفضه. سأحاول في هذه المقالة التفكير في مثالين على التسول، الأول في المجتمع السعودي والآخر في المجتمع الأمريكي من أجل التعرف على وجه آخر من وجوه ضغط الثقافة المسيطرة على الأفراد.
في المجتمع السعودي تتسيد المرأة ساحة التسول ويحضر الرجل حضورا بسيطا. تسيد المرأة لساحة التسول هو علامة على أنها الأكثر قدرة على جلب الاستعطاف في هذا المجتمع باعتبار أن الثقافة العامة تنظر للمرأة على أنها كائن ضعيف ويحتاج الرعاية والعطف باستمرار. لا ينظر للمرأة عادة على أنها كائن مساو للرجل وقادر على الإنتاج والعطاء. أيضا تشير سيادة المرأة للتسول على ضيق مجالات العمل التي يمكن أن تنخرط فيها بشكل طبيعي. اليوم واضحة هي الحرب الشديدة ضد فرص العمل الجديدة للمرأة. لكن السؤال هنا هو عن ماذا تفعله هذه المرأة المتسولة للحصول على رضا وتعاطف العموم؟ من الملاحظ مبالغة المتسولات في الحجاب بحيث تغطي كل جسدها وأطرافها لتوصل رسالة للمتصدّق المحتمل، مضمونها أنني متدينة وشريفة وأستحق المساعدة. هي تعرف أن كثيرا من العامة مأسورون بالحكم من خلال المظهر وبأحكامهم المسبقة التي تربط التستر بالتقوى. على ذات الخط وربما هو الخط الرئيس هنا ، تفرض الكثير من الجمعيات الخيرية عددا من الشروط للاستفادة من إمكاناتها، هذه الشروط تمثل وجهة نظر جماعة معينة استطاعت السيطرة على العمل الخيري وفرضت من خلاله مقاييسها ورؤاها والمتوقع من المحتاجين هنا هو الاستجابة لهذه الشروط رغبة في الحصول على مساعدة. من الأمثلة على هذه الشروط: الحجاب الكامل الذي يشمل جميع الجسد والأطراف وهو مختلف عن الحجاب الدارج في المجتمع ، منع القنوات الفضائية من البيت. إذن من خلال المرأة المتسولة في الشارع نستطيع التعرف على النسق المسيطر على العمل الخيري من جهة وصاحب السطوة الاجتماعية من جهة أخرى كما يمكن أن نقيس العلامات التي يستخدمها الأفراد للوصول إلى رغباتهم. ولو وسعنا النظر لوجدنا أن ما تقوم به المتسولة من استخدام لعلامات دينية معينة هو ما يقوم به أغلب فئات المجتمع للوصول إلى رغباتهم على اختلافها.
في أمريكا تسول أيضا ويمكن قراءته هو أيضا كعلامة على المجتمع وأنساقه المختلفة. مباشرة يمكن ملاحظة أن الرجال هم غالبية المتسولين ولهم في التسول طرق مختلفة لجلب تعاطف المارّة. شخصيا يمكن أن أضع هذه الطرق تحت عنوانين عريضين: تقديم عمل مسلّ وجذاب غالبا موسيقي أو كتابة عبارة مؤثرة تعبّر عن المبرر الذي يسوقه المتسوّل للناس لكي يساعدوه. الفن هو الوسيلة الكبرى لطلب المساعدة من الناس حيث يحمل الشخص آلته الموسيقية ويبدأ بالعزف ويقوم الناس بالتبرع لهذا الفنان الذي يمر بظروف صعبة، هنا يحضر الفن باعتباره المجال الأكثر تأثيرا على الناس وجلبا لتعاطفهم. من الصور المؤثرة في الوجدان الأمريكي صورة الفنان المسحوق، الفنان المتخاصم مع الواقع أو الرافض للسياق العام. أيضا من الصور المؤثرة صورة الشخص الثائر سلميا على الحياة الحالية والذي يعبر عن هذا الرفض من خلال نمط عيشه غير المنخرط في النظام السائد كما يعبر عن موقفه من خلال عبارة مختصرة ومؤثرة يضعها للمارة من أمامه. هنا يأتي نسق التحرر مؤثرا وجالبا للتعاطف. التحرر هنا علامة على رغبة اجتماعية كبيرة أو سياق ثقافي ذي سطوة وغلبة ليس على طالب المساعدة إلا تبنيه واستثماره.
العلامات الثقافية كالأزياء والمباني ذات دلالات عميقة على المجتمع الذي تنتمي له، أحيانا لها دلالات مباشرة وواضحة وأحيانا أخرى لها دلالات ملتوية ومضللة، على سبيل المثال يعتقد البعض أن كثرة المساجد في بلد ما تدل على التقى وانتشار العبادة بينما يرى آخرون أنه علامة مضادة تدل على ارتفاع نسبة الفاسدين الذين يحاولون تجميل صورهم من خلال بناء مساجد ربما لا يحتاجها أحد. المهم هنا هو التنبه للعلامات وفحص مضامينها. التسول أو طلب المساعدة المالية هو أحد هذه العلامات الدالة التي يمكن التعرف من خلالها على السياقات ذات السطوة اجتماعيا وبالتالي يمكن التعرف على أسباب الأحوال التي تمر بها المجتمعات أيضا. العلامات تشير لنا إلى حقيقة المجتمع، ربما المستترة. التسول هنا يشير إلى المرأة في مجتمعنا المحلي كعلامة على المسارات التي يراد للمرأة أن تسير فيها لتلبي رغبة ذكورية تسعى لإخفاء المرأة قدر المستطاع. كما أن التسول في بيئة أخرى علامة على دفع الناس للتحرر وعلى الاعتراض على السياق العام والسيطرة خصوصا من الأنظمة الاقتصادية الجبّارة. من المهم ألا ندع العلامات تشكّلنا بدون وعي ، من المهم الاحتفاظ تجاهها بمساحة من الوعي والتشكك وإعادة التفكير والنظر، فلا شيء أكثر ضررا على التفكير النقدي والعقل الشكي وحركات التغيير والتنوير وتطوير المجتمع من الاعتياد وألفة العلامات.