يقولون: "من المعضلات شرح الواضحات"، وبصيغة أخرى: "توضيح الواضحات من المشكلات"، ومن واضحات الوقت التي لا يمكن أن يتسرب إليها الشك أن المجتمعات لا يمكن أن تتطور وهي منفصلة عن بعضها أو متصادمة مع بعضها، كما أن المجتمعات إن أرادت أن تنمو فلا بد من البحث عن المشتركات والمصالح التي يمكن الاجتماع عليها، وبدون ذلك ليس إلا المهالك والكوارث، و"الهرج والمرج" كما قاله صلى الله عليه وسلم، وفسره بالقتل والاقتتال.

أهلنا الكرام في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في سلطنة عمان لهم عناية خاصة بالجوانب الفقهية، لا سيما الجوانب الحيوية والتجديدية، التي تتعلق بالإنسان أينما كان، وكيفما كان، والجميل أنهم لا يغلفوها بأي تحيز لصالح أي مذهب فقهي، أو منهج عقدي، أو اتجاه سلوكي.. في كل عام تعقد في مسقط ندوة علمية راقية تسمى "ندوة تطور العلوم الفقهية"، وتختار لها إحدى القضايا الملحة التي تفرضها مستجدات الحياة المعاصرة، وقد ظهرت المواظبة على ذلك جليا في النسخة الثالثة عشرة التي تم اختتامها قبل عدة أيام، وكان عنوانها: "الفقه الإسلامي: المشترك الإنساني والمصالح".. لم يشأ الله لي أن أحضر ندوة هذا العام أيضا، وتابعتها عن بعد لثقتي بالأفكار العلمية والعملية التي يقوم بطرحها الفقهاء والعلماء من كل المذاهب المعتمدة، ولمعرفتي بالأثر الجميل الذي تحدثه الندوة في الطبقة العلمية الفكرية من ناحية، والطبقة المتلقية من ناحية أخرى.

مفهوم أو نظرية المشتركات الإنسانية تؤكد أنه لم يعد ممكنا أن يعيش الإنسان بمعزل عن غيره، وأن التفاعل السلوكي والحضاري والإنساني بين الناس من أأكد الأمور؛ فالجميع في الوطن الصغير أو الوطن الكبير يعيش في كوكب واحد، وعلى أرض واحدة، وتحت سماء واحدة، وبينهم مصالح متشابكة وأمور عدة يلتقون حولها، ولا مجال للانحياز أو الانزواء أو العسكرة أو التخندق أو الاحتراب ـ (يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم مّن ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم إنّ اللّه عليمٌ خبيرٌ).. (أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلّكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على أعجمي، ولا أعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا أبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى) ـ .. اليوم وأكثر من أي وقت مضى ينبغي أن تتم المناداة بتفعيل المشتركات الإنسانية المعتمدة على القيم النبيلة التي جاءت بها الشرائع السماوية كالوئام والتفاهم والتقارب والتعايش وتبادل المصالح، والمحافظة بكل انضباط على الخصوصيات الثقافية، كما ينبغي التأكيد على أن المصالح مهما تقاطعت وتداخلت يمكن استيعابها لحماية الدين والمجتمعات والإنسان.

ترسيخ أركان الحياة: المساواة، والشورى، والعدل، وحقوق الإنسان؛ والتي تسمى "أخلاق السياسة الإسلامية"، أو "السياسة الشرعية"، أو "الفكر السياسي الإسلامي" هو ما يمكن المحافظة به على الضروريات الخمس، التي يسميها بعض أهل العلم بالكليات الخمس أو الست: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، والعرض، وكلها ضروريات وكليات اتفقت الأديان السماوية، وأجمع أنبياء الله تعالى ورسله من عهد سيدنا آدم - عليه السلام - إلى سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - على وجوب حفظها، والمطلوب اليوم هو أن تتحول هذه المسائل إلى ثقافة عامة، وواقع معاش بين الناس؛ تنبذ فيه الكراهية، وتعترف فيه بالحقوق، ويحصل به ضمان الحياة الكريمة والآمنة للجميع.