لا يمكن إذن فهم الطب وفلسفته وأدبه ومصيره إلا ضمن منظومة معرفية، فهو مثلث من الفن والأخلاق والغطاء القانوني.


فأما الفن فهو ثلاث؛ مثل أي وحدة عمل ناجحة، من التأسيس النظري والممارسة العملية، والمتابعة (النقد الذاتي Follow up)، فإذا مات المريض قفزت وحدة المتابعة والمشرحة تسأل عن السبب المغيب، وهل كان بالإمكان تجاوزه وتفاديه، ليس للمريض الذي مات فقد مات، ولكن للمريض القادم، فهذا هو جو العلم وليس أنه قدر لاسيطرة لنا عليه، فهذا هو لب الإيمان، وحب الله إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله.


لم ينم الطب إلا في مناخ من حرية التفكير والتعبير، والتشجيع ببراءة الاختراعات، وتحمل النتائج ولو إلى درجة الصدمة، وتبادل الخبرات العلني في مؤتمرات ودعت السحر والشعوذة والدجل والأسرار، ونقل كل ذلك إلى حقل العلم بساقين من التنبؤ والتسخير. والدخول إلى عالم السنن والسيطرة عليها، وإخضاع الأفكار إلى دورات مكثفة تحت مسبار النقد ومشرحة التمحيص.





وأما الغطاء القانوني فهو أيضا ضروري لثلاث، فليس الطب مقصا وسكينا ومنشارا، إذا لكان الجراح أقرب لمهنة الجزارين؟ بل لابد من نظام متكامل برافعة قانونية لحماية الطبيب والمريض.


وأهمية هذا تنعكس على ثلاث: زيادة الانتاج، وتطوير العمل، وتدريب الطواقم الطبية من كوادر الشباب، بحيث يستمر انتاج أجيال من الأطباء يطورون ماطوره من سبقهم، وبذلك يستمر قلب الحضارة في الخفقان لأن الحضارة هي أيضا ثلاث كلمات: خلق الأشياء، وصيانتها، وتطويرها، فإذا أردنا رؤية وجهنا في مرآة الحضارة اكتشفنا أن الإبداع عندنا انطفأ، وأن السيارات التي نشتريها لا نعرف صيانتها، والمشافي التي نبنيها تنهار مثل ملح فاجأه سيل عرم، ومن سولت له نفسه فكرة الحديث عن التطوير كان في أعيننا انشقاقا سياسيا، أو بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وهذا يعني أننا خارج سكة الحضارة، وأن علينا معرفة هذا لأن أقبح الناس من لا يعرف ولا يعرف أنه لا يعرف كما قال الفراهيدي. إنها أجراس إنذار لقوم صم؟


وأما القسم الثالث في الأخلاق فهو بدوره ثلاث؛ روحه والمسار والمصير؟ والطب الحالي الذي ينتج في بوسطن وريجنسبورغ ولوند وكيوتو وجرونوبل مصاب بثلاث علل قاتلة؛ روحه عدمية، ومساره عبثية، ومصيره الإلحاد؟ والمسؤول عن هذا بولس والكنيسة.


فأما روحه فيقولونها بصراحة؛ الكون تحكمه الصدفة والضرورة. وأما المسار فهو من أجل المال، فأصبحت تجارة الطب مثل بيع القماش والموبايلات، بعد أن نسف موسى عجل السامري في اليم نسفا، إلا أن الإنجلوساكسون أعادوا بناء العجل الذهبي في مانهاتن، وقالوا اجعل لنا إلها كما لهم آلهة؟ وأما المصير فهو الإلحاد، الذي يعامل المريض على شكلين لحم وجثة، على الطريق إلى جبل الجلجثة، وهذا يقودنا إلى تكرار إعلان شبنجلر بإفلاس الحضارة الغربية، ومرض الحضارة الإسلامية إن لم يكن موتها؟ في المسألة قولان.


وهذا يدفعنا إلى القول إن العالم على أبواب مخاض كبير بولادة عظمى، أو الانهيار الأعظم ونهاية الحضارة وستكون من إسرائيل بانفجار العالم نوويا؟


هناك من هو أعشى في رؤية الحضارة الغربية، ويكتب عنها اثنان؛ من زار شهرا، ومن قرأ ولم يعاين، وأنا رجل عشت وما زلت أعيش بين أظهرهم.


ظهر المرض الغربي بتطبيق السلاح النووي، وإبادة الهنود الحمر بالبنادق، وتسميم ثمانين مليون إنسان في الأمريكيتين بالجدري، بحيث تقف بقايا حضارة المايا بدون كتاب يقرأ، ومن كتب عنهم مثَّله في فيلم أبوكالايبتو (Apocalypto) الذي أخرجه ميل جيبسون، أو شحن 200 مليون أسود من إفريقيا، فمات أكثر من نصفهم بالطريق في أعظم مجزرة، حاول الغرب تخفيف وقعها بفيلم سخيف اسمه (الأميستاد)، أو الشيوعية الموديل والنموذج الغربي وهو نتاج ألماني من حضن كارل ماركس، فقاد إلى هلاك 200 مليون من الأنام، على ماحققه الشيوعي المخضرم ستيفان كورتوا في كتابه الأسود؟ وحرق عشرة ملايين امرأة بتهمة السحر على رواية فولتير، حرقتهن الكنيسة في الساحات العامة مع القطط والكتب.


وافتتاح القرن السابع عشر بحريق جيوردانو برونو المرعب مثل فروج مشوي، مما حمل نيتشه على إعلان موت الإله، وفوكو عن موت الإنسان، وهابرماز عن نهاية الحداثة، فدعا إلى مابعد الحداثة، ونمو الفاشية والنازية على يد روزنبرج وهايدجر التي قادت إلى مذابح القرن، وإعلان شبنجلر أفول الغرب (Der Untergang des Abendlandes) بمرض الاستعمار، وهو المرض الذي لعنه القرآن ثماني مرات، على لسان المستكبرين والمستضعفين.


أما عندنا فنعيش ظاهرة تفشي الأفكار الميتة والقاتلة، وهو مصطلح يشبه وحدات الدم بانتهاء الصلاحية واختلاف الزمرة، فهي قاتلة ولو أعطيت لمريض يموت نزفا، والأفكار الميتة هي التراث الفكري الهائل الذي انتهت صلاحيته، ويجب أن يدفن بخشوع، كما يدفن أهل القرية موتاهم في مقبرة مخصصة للجثث. ولكن من يقول لنا ماهي هذه الأفكار؟ ومن يتجرأ؟


والأفكار القاتلة هي تلك الأفكار الفعالة في وسطها تنقل إلى وسط مغاير بشروط مغايرة، كما في مجالس الشعب من أوروبا والانتخابات، لتصبح مجالس قرود للتصفيق والهتاف بحياة القائد إلى الأبد ـ عفوا من التعبيرـ والانتخابات تزويرات على قدر النسبة، فإن كانت النتيجة 99,99 % لصالح الرفيق المهيب فهي مزورة 99,99% وتنضغط الأمة إلى حجم النانو؟


يمكن فهم تطور الطب من الداخل والخارج؛ وتعاون علوم شتى لتطوير علم آخر، فالجوجل يعطي المعلومات، عن الشخص والمؤسسة بأكثر مما يعلم عن نفسه، واستنساخ دولي فتح الطريق في الطب إلى تداخل علمين من الهندسة النسيجية والخلايا الجذعية، لمعالجة أمراض كانت في حكم المستحيل، مثل باركنسون واحتشاء القلب وأمراض فرط كولسترول العائلة والسكري.


وجراحة القلب بدون توقف كما كان سابقا بنقل الدم إلى الخارج، وسبات القلب بالثلج للعمل عليه، فتحول إلى جراحته وهو يرقص رقصته المعتادة يسبح العلي القدير.


ومعالجة التهاب المرارة بالجراحة المباشرة إلى جراحة المناظير إلى تقنية النوتس (NOTES) عن طريق الاستغناء عن أي ثقب والدخول من فتحات الجسم الطبيعية من فم وشرج ومهبل وإحليل وأنف؟


أو تطويع آلية النمو في تقنية أليزاروف فتكسر العظام لإصلاحها بعد أن كان التجبير الشيء الوحيد؟


أما الإيدز فأصبح رحمة من جانب فقد دفع الأبحاث إلى اتجاه جديد، بالكشف عن الجينوم البشري بثلاث مليارات حمض نووي، وهو علم المستقبل لفهم كيف يعمل الجينوم، وهو يشبه تماما دراسة الجراثيم في حالة الموت والركود، كما حصل مع التشريح والفسيولوجيا، وتطوير المجاهر من العادي إلى الإلكتروني وأخيرا المجهر (STED) برؤية البروتينات عيانا، وهي تعمل وتتراكب فنفهم متى يضحك الأنسان ويبكي؟ وأي بروتين كان السبب؟


أو معالجة تضييق الشرايين بالحفر مثل الكوسا، أو نزع سماكة الجدار، ووضع أنابيب الستنت للتضييقات أو التوسيعات من الأنورزما المنتفخة خوف الانفجار.


فالعلم لايعرف المستحيل، وله ناظمه الأخلاقي الخاص، ولا يتعب أو يستريح كما لايعرف التوقف والاستقالة واللغوب، فهو من روح الله الذي يعلم السر وأخفى.