الكتابة طائرة ورقية توجهها الريح ونمد لها حبال طاقتنا الجمالية حتى النهاية لتبقى محلقة في السماء ونستمر في مراقبة دهشة الآخرين بها.. ما أجمل بعض الطائرات وبعض اللاعبين بالحرف الذين كشفوا لنا بعض أسرار جمالها!
تقدم عدة مؤسسات مشكورة برامج ثقافية بعضها سنوية كالندوات المصاحبة للجنادرية ومعرض الكتاب؛ والأخرى ما تقوم به النوادي الأدبية والجامعات أو ما ترعاه المؤسسات الثقافية العامة وحتى الخاصة؛ وهذه الأنشطة تظل محدودة وقليلة نسبيا مقارنة بعدد السكان وكثافة المدن لدرجة تثير سؤالا مخيفا ماذا لو حضر كل المهتمين؟ ربما يحدث ما لا تحمد عقباه!
والواقع يتفاوت الحضور من فعالية لأخرى ولا يحضر كثير من المهتمين، ولا حتى ربع العشر أحيانا؛ ترى ما السبب؟
المتأمل في صناعة الثقافة لدينا يجد أنها بحاجة ماسة لأكثر من الإعلان أو الحضور؛ ولنبدأ أولا بأي ثقافة نريد نشرها والعناية بها؟!
لو صنفنا ثقافتنا لوجدنا أنها تنحى أكثر من منحى وهي هنا لا تختلف كثيرا عن الثقافات العربية الأخرى إلا في مجال واحد، وهو مبالغة وتوهم بعض المثقفين بفكرة تحصين الثقافة ضد ما هو غير إسلامي من مبدأ خصوصيتنا؛ وهذه الفئة بالغ بعض المحرضين فلجأ للقوة في سنوات مضت لم تتكرر هذا العام بفضل الله أولا ثم بفضل الرعاية الأمنية للفعاليات الثقافية التي تشكر عليها وزارة الداخلية.
هذه الفئة مشغولة بتكريس فكرة، أن كل فكرة مغايرة خطر يهددنا وينسف مجتمعنا وتعزف على وتر المخاوف ببراعة، وهي ترى أن المخاوف تهددنا سواء أكانت قرارا عن رياضة للنساء أو مطبوعة في كتاب أو معروضة في ندوة تشارك فيها امرأة على منصة وخلقت عندنا فكرة المناصحة الثقافية لأنها تشكل تصرفا وجد مؤخرا، وهي في أبسط توصيف لها مظاهرة ضد ما يخشى من حدوثه أو حدث ولم يرق للمناصحين.
هذا الخوف خلق التصادم بين من ينظم الفعل الثقافي ومن يعترض عليه وأسس لثقافة خائفة تعلن عن بعض الفعاليات بشكل نخبوي أو تختار أوقاتا يصعب حضورها كالفعاليات الصباحية أو فترة الظهيرة التي يقصي موعدها جميع الموظفين في الدولة أو يضطرهم للغياب عن العمل الرسمي لحضور الفعل الثقافي !
هذه الفجوة بين فريقين يدفع المجتمع أمنيا وماديا وثقافيا ثمنها عندما نسترجع مراحل مرت بنا وأدت إلى أن أصبحت كل قراءة لا تخدم الدين عبثا، وكل أدب ليس إسلاميا بمعنى الكلمة يعد ذنبا! حتى أصبحنا نجد من يحاسبنا على قراءة أو فعالية ثقافية أو يسأل عن حضورها وهل له مقابل مادي؟!
أذكر في نشاط إبداعي قامت به موجهات صديقات شمل مجموعة من المدارس لاحظن أن مستوى طالبات حي ما متدنٍّ ثقافيا أكثر من الحي الفقير الذي بجواره لأن سكان الحي الأول يغلب عليهم التدين الذي يقصي غيره ولا يقدم البديل الكافي فهمشت القراءة لأبعد حد!
وما بين ثقافة خائفة من ثقافة متسلطة نشأ شباب ساخر منغلق على إبداعه وبعضهم قرر أن يستقل بخط ثقافته الخاصة كما فعل جيل الرواد فقويت علاقته بالمنتج الثقافي الخارجي العربي أو الغربي لأن ما في الداخل غير كاف أو أقل من طموحه ووعيه بكثير!
هذا الشباب مع هذه الثقافة أشبه بقنوات التلفزيون الحكومية في الوطن العربي مع المجتمع، التي كانت رافدا ثقافيا مهما لجيل مضى لكنها لحذرها لم تتقدم بسرعة مرور الزمن ولم تأخذ بما كانت تأخذه قديما فكأنها في فقاعة ضخمة من الحماية الشديدة من كل ما عداها ولا يهم إن كان ما يقدم جيدا بينما تفوقت القنوات التجارية لأنها اختارت الجرأة وملاحقة رغبات الناس، وبالتالي تقبلها المتابع رغم أن فيها من الغث كثيرا لكن حريتها جاذبة له!
أعود لما بدأت وأقول في مقابل هذا تحظى بعض الفعاليات المسرحية مثلا أو "ستاندأب كومدي" بحضور رائع وجمهور متعطش ولا تشكل زوبعة إلا أنها تبقى محدودة بعروض قليلة؛ ولا أدري ما يمنع استمرارها ودعمها لتبقى فترة طويلة وتخدم رسالة الثقافة وتتلقف بعض الشباب من الاهتمامات الضارة به وبمحيطه لأن تنوع المناشط هو ما يوضح رسالة الثقافة ويزيل المخاوف منها، ويبني عقولا واعية تستطيع التمييز بين ما يجب رفضه لأنه يشكل خطرا حقيقيا وبين ما لا يشكل خطرا إلا في أذهان الموهومين.
ختاما لا أرى مبررا لخوف القائمين وبالقدر نفسه الذي لا أجد مبررا للمصادمة، كما أعترف أن هذه المقالة مجرد توصيف وطرح تساؤلات لعلها تجد عندكم جميعا الإجابة عن سؤال: كيف نؤسس لثقافة مميزة؟!.