مدهش أن تكتشف أن أنظمة وزارة الخدمة المدنية تبتعد عن "المدنية"، فأنظمتها التي تعدّ الغطاء النظامي لكل أنظمة التوظيف الحكومي في الوزارات الأخرى، إلا أن أنظمتها حتى الآن لم تواكب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولا سيما ما يتعلق بحقوق الإنسان في مجال العمل، فمن خلال تجربة شخصية ممتدة لـ15عاما في العمل الحكومي، أثبتت لي أن أنظمة هذه الوزارة يمكنها أن تختزل عمر الإنسان وخبراته ومكتسباته لتجرده من كل شيء، بل يمكنها أن تفعل أكثر من ذلك لتسرق سنوات العمر!.

معروف أن القوانين وضعت لتخدم لا لتظلم، وتتعمد الإجحاف، بل يجب أن تتطور وتسهم في منح الإنسان شعورا بقيمة ما يفنيه من عمر، إلا أن الأنظمة يمكن أن تتطور للأسوأ، وهذا ما حصل بالفعل في وزارة الخدمة المدنية، إذ إن أنظمتها ما تزال ضد الكادحين.

سبق أن تواطأت "الخدمة المدنية" مع وزارات أخرى لتسهيل عملية "تسخير" الموظف الحكومي في "مفاهمات" و"اتفاقيات" تجعله يخرج صفر اليدين، كما حدث لمعلمي وزارة التربية والتعليم في التعيين على بنود ومستويات أدنى، تلك القضية الشائكة التي ما كان لها أن تكون لولا غطاء "الخدمة المدنية" التي علّقت نظامها الواضح والصريح، فتفاقمت المشكلة بسببها.

أيضا سنّت وزارة الخدمة المدنية مؤخرا أنظمة لوائح جديدة لاحتساب الخبرات تزعم ـ إعلاميا ـ أنها في خدمة المواطن السعودي، لكنها في واقع الأمر "عقدة" في المنشار أمام ترقيه وسهولة تنقله من كادر وظيفي إلى آخر، ومثال ذلك تعديل احتساب معادلة المراتب بأربع سنوات بدلا من ثلاث، دون أي مبررات سوى محاولة الحد من تكافؤ الفرص أمام الموظفين بمختلف تخصصاتهم.

يقول وزير الخدمة المدنية: "سعيا من وزارة الخدمة المدنية لتنفيذ استراتيجية متكاملة لتطوير أنظمة الخدمة المدنية ولوائحها التنفيذية بما يتوافق مع التطورات التي تشهدها المملكة العربية السعودية في المجالات كافة، ومنها القطاع الحكومي والوظيفة الحكومية؛ بهدف تعزيز القدرات المؤسسية للجهات الحكومية بما يمكنها من القيام بمهامها ومسؤولياتها على مستوى عال، وبما يتوافق مع التطورات العلمية والتقنية على المستوى العالمي".

غير أن من يقف خلف "ضبط" هذه الأنظمة وتفسيرها هو في نهاية الأمر "موظف حكومي"، فيقوم بتفسيرها وفق قسمة "ضيزى" بطبيعة الحال، إذ لا يتساوى موظف مع آخر وفق هذه القسمة، وهنا تأتي الحاجة إلى إدماج حقوق الإنسان في هذه الوزارة؛ كي لا تكون وزارة أشغال شاقة!.

أمر آخر يتعلق بالاستثناءات التي فتحت "الخدمة المدنية" المجال فيها لغاية في نفس يعقوب، هي أبعد ما يكون عن المساواة الصادرة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي ترعاه المملكة العربية السعودية، وقد ظهر نوع من عدم المساواة في قضية تثبيت موظفي البنود ومنهم على مستوى أقل، فحصل نوع من التباين.

وتلجأ وزارة الخدمة المدنية في أنظمتها إلى اختصار كل شيء إلى الأسوأ، إذ إنها تقوم بتصنيف مراتب ورواتب الموظفين الحكوميين بدرجة أقل من وظائفهم ومرتباتهم الحالية في حال إجراءات التدرج الوظيفي، ورغم وجود نظام وصريح لديها بأن الموظف الحكومي يجب ألا يقل مرتبه الشهري عما يتقاضاه في حال انتقاله من عمل حكومي إلى آخر في نفس المجال، إلا أنها رغم ذلك لا تلتزم بالخطوط العامة لهذا النظام، لا بل إنها تحث المؤسسات الحكومية على ضرورة توقيع الموظفين على "تعهّدات" خطية تتضمن تصريحهم بالرضا بـ"النصيب" الذي ارتأته له، وتتضمن أيضا تعديا صريحا بعدم مطالبتهم بأي حقوق، وأنهم مقتنعون تمام الاقتناع بذلك، وهذا الإجراء يعدّ "عقد إذعان" إلا أنه في الوقت ذاته إجراء احترازي يهدف إلى مصادرة حق الموظف في "التقاضي" من خلال القضاء الإداري... وهذا ما يحوّل "الخدمة المدنية" إلى "الأشغال الشاقة"!.