"آفة حارتنا النسيان"، فهناك طائفة من النخبة الانتهازية تراهن على ذاكرة الشعوب المثقوبة، التي لم تتعلم مما شهدته مصر من تحولات سياسية منذ انقلاب "الضباط الأحرار" على الملك فاروق، ونحت لهم "ثعلب السياسة" محمد حسنين هيكل، مصطلح "الحركة المباركة" في بداية الأمر، وما لبث أن تفتق ذهنه عن "تخريجة ماكرة" مفادها أنها على الرغم من كونها انقلابا عسكريا، لكنها تحولت إلى ثورة شعبية لاصطفاف الشعب حولها. والحديث عن "هيكل" الذي عاش عقودا مارس خلالها دور "عرّاب الطغاة" من صدام للقذافي، سنناقشه في مقال مقبل.

وجرت أكبر عملية تزييف لتاريخ مصر بشيطنة أسرة محمد علي، بدءا بمؤسسها الذي غيروا حتى اسم الشارع الذي كان يحمل اسمه، ونسبوا لأبنائه وأحفاده الاتهامات كافة من الخيانة، وصولا لوصمهم بالانحلال الأخلاقي، وكان النصيب الأكبر لآخر الملوك فاروق الذي رفض السماح لوزير الحربية وقائد الحرس الملكي القبض على "الضباط الأحرار"، وأكد رفضه السماح بإراقة نقطة دم واحدة، وأجبر على التنازل عن العرش لابنه الطفل الأمير أحمد فؤاد، وقبيل مغادرته أدى له التحية العسكرية اللواء محمد نجيب، الذي استخدمه صغار الضباط ليكون "واجهة مقبولة" شعبيا، حينها قال الملك لنجيب: "حكم مصر ليس سهلا يا نجيب، وستجربونه"، وكان نجيب أول من دفع ثمن موقفه؛ لأنه طالبهم بالعودة لثكناتهم لتكون السلطة لطبقة من السياسيين المحترفين الذين كانت تتباهى بهم مصر، فجرى تجريفها ووضعوا نجيب رهن الإقامة الجبرية حتى وفاته.

في مرحلة تحول جديدة ظهرت طائفة من النخب السياسية خلال السنوات القليلة الماضية، وتصدرت المشهد السياسي، واللافت أن معظمهم قدموا من الخارج بعد عقود، تحولت معها حتى لكنتهم لما يشبه "لهجة الخواجات"، وصارت صلتهم بالواقع المصري كرؤية السياح، فهم أبعد ما يكونون عن روح مصر ومزاج شعبها العاطفي، ولعل أبرزهم محمد البرادعي، والغريب أنهم تبخروا كأنهم كانوا مكلفين بمهمة جرى تنفيذها، وزرعوا تلاميذهم في أهم مؤسسات الدولة، وهي الرئاسة والخارجية ومجلس الوزراء السابق الذي كان يرأسه الببلاوي.

أما النموذج الثاني، فهم من عتاة الإرهابيين الذين أفنوا زهرة شبابهم خلف القضبان، وخرجوا مسكونين بمرارات تعكر النيل، بعد تورطهم في جرائم إرهابية خلال تسعينات القرن الماضي، وأطلقهم الرئيس المعزول؛ ليكونوا "ميليشيات مسلحة" لإرهاب خصوم الإخوان، مقابل ترضيات شاهدناها خلال العام الأسود من حكم الجماعة.

لا يؤرقني نموذج الإرهابيين؛ لأن معادلتهم بسيطة، وهي الملاحقة الأمنية والقضائية لمحاسبتهم، لكن الأخطر هم "خواجات السياسة"، الذين زيفوا وعي شباب رأى فيهم "قدوة وطنية"، ويطرح بعضهم ما أسموه "المصالحات والمبادرات لاستيعاب الإخوان"، كأن المصريين في خصومة مع الإخوان بسبب "حادث سيارة" أو مشاجرة مثلا، وتعمدوا تمييع إشكالية الإخوان، متجاهلين ما يقترفه عناصر الجماعة من جرائم قتل وتفجيرات واغتيالات وترويع للمجتمع، ولم يُشّر "حكماء المصالحة" لقانون العزل السياسي، الذي كانوا عرّابيه خلال حكم مرسي.

ورغم أن قادة الجماعة يضعون شروطا تعسفية وخرافية للاندماج بالعملية السياسية ويستحيل تنفيذها، كإعادة مرسي للحكم والعمل بالدستور المُعطل وغيرها، يخرج علينا أدعياء الحكمة بمبادرات، وحينما ذكّرت أحدهم بأنه يكيل بمكيالين، فكيف كان متحمسا لقانون عزل "فلول" عهد مبارك خلال عضويته ببرلمان الإخوان، والآن يدغدغ مشاعرهم رغم ممارستهم العنف بشتى صوره، وإهانة الجيش والشرطة والقضاء والإعلام، غضب "العرّاب" وراح يتحدث بخشونة لفظية وتهديدات بالتصعيد مستخدما عبارات سوقية أصبحت أسوأ سمات المرحلة.

الحاصل أن مصر تشهد "مرحلة فرز" كاشفة، فكم من شخصيات صُدمنا فيهم بعد 30 يونيو، بعد أن كنا نحسن الظن بهم، فإذا بعضهم يعتنقون فكر الإخوان للنخاع، والآخر يتلون ويتعامل بانتهازية، لكن شاءت العناية الإلهية فضح حقيقتهم، ومتاجرتهم بالدماء؛ سعيا لمغنم، أو ادعاء لموضوعية زائفة لابتزاز السلطات.

قصارى القول، أنه لن تتحقق مصالحة بالرضوخ للابتزاز والإرهاب الإجرامي والفكري، ولا ينبغي الرضوخ للمحاولات البائسة لتبرير جرائم القتلة، فليس لهؤلاء سوى تطبيق القانون بصرامة، ولا أتفهم مبررات الإفراط في "المواءمات السياسية"، بظروف حرجة لا تحتمل السلوك المتردد، فمحاولة استرضاء الغرب الذي يدعمهم ستجعل هؤلاء الإرهابيين يستأسدون أكثر، ويقودون المواجهة للأسوأ.