لست بصدد الكتابة عن الدعاوى التي يحملها التاريخ في طياته عن النحو والنحويين، وما أحاط به وبهم من آراء تنال في رأي كثير من المقاربين من قداسة اللغة العربية وأهميتها حتى بلغت شأوا بعيدا قرأناه في قصص وأخبار التندر على تنطع النحاة وإغراقهم في الحديث وعلى الكلام بعامة، أو عن تلك الهجمات الشرسة على هذا العلم المعني بتقعيد اللغة ووضعها في قوالب لا تخرج عنها إلا بوجود مسوغ علمي أو تخريج ذي وجه مقبول كما نعرف عن مدرستي البصرة والكوفة، الأمر وما فيه يتعلق بسؤال كبير يفرض حضوره خاصة في هذه المرحلة التي استحالت فيها اللغة -أي لغة- إلى رموز مختصرة ومبسترة بل مرسومة ومصورة، ينطرح السؤال بنكهة ووهج يختلف عن أبعاده في مبتدأ وأواسط القرن الماضي أو الذي يليه حين ركبت الأسنة لمهاجمة اللغة العربية في المناهج الدراسية كما حدث في بعض الدول العربية، إليكم سؤالا: ما حاجتنا إلى النحو وقواعد اللغة إذا كنا نتحدثها بطلاقة وحب وانتماء؟

ما حاجتنا إلى ما قاله سيبويه في "إذا" الشرطية أو الظرفية إذا أصبحنا نعرف متى وكيف نقولها ونكتبها؟

وهل علم النحو وحده من سيدلنا على ذلك؟

أعلم قبل الاستطراد أن من القراء من سيبدأ في الإشارة بأصابع الاتهام تجاه هذا الطرح، ولكن لنتريث قليلا ونأخذ الموضوع إلى حيز الحياد والدرس الواقعي، لو افترضنا أنك أخضعت طفلك لمحاكاة نموذج لغوي صحيح، سواء في البيت أو الروضة أو المرحلة الأولية من المدرسة، فأصبح يعبر بلغة فصيحة رصينة واضحة ومضبوطة، فهل سيحتاج إلى أن يعرف ما إعراب الكلمة التي تأتي بعد "إلا"؟

وهل من الضرورة بمكان أن يعرب الاسم الثاني في جملة فعلية؟ لا أظن، فالهدف من النحو وصلنا إليه قبل النحو نفسه، إذ المحصلة من دراسة علوم اللغة هي إيجاد متحدث فصيح قادر على إيصال أفكاره ورؤاه وخلجات نفسه إلى الآخرين دون أهمية لمواقع الكلمات في الجمل وتأثيرها في بعضها بعضا داخل السياق اللغوي.

نحن نعلم أن طلابنا في المدارس لا تربطهم علاقة حب مع النحو، أو الإعراب على وجه خاص، وأن من المعلمين من تأخذه النشوة حين يسأل عن الإعراب فلا يجيبه أحد، ليجد الطلاب جوابا متعاليا يأتي ممزوجا بعبارات الاستخفاف بحصيلتهم اللغوية، بل ويشكك في صدق انتمائهم إلى لغتهم، رابطا ذلك بالقرآن الكريم كونه نزل بلسان عربي مبين.

اللغة اكتساب فطري منذ الولادة، ومن العلماء من يؤكد الاكتساب في مرحلة الحمل، ينمو دون وعي، حتى أن طفل ما قبل المدرسة يمكنه أن يكتسب ثلاث لغات غير لغته الأم بكل سهولة، وذلك نظريا يعتمد على احتياجاته إلى التواصل الاجتماعي، وعمليا لأن قدراته في هذه المرحلة العمرية تستوعب ذلك وأكثر، فإذا لاحظنا أبناء من عملوا في دول أجنبية سنجدهم يجيدون لغتين، ولا يضيرهم أن يكتسبوا ثالثة. وعليه فإن تدريب الطلاب أو الأبناء عموما في سنيهم الأولى على التحدث بلغة رصينة فصيحة مضبوطة سيجعلنا نتنازل كثيرا عن تدريس النحو وقواعد الإعراب التي أضحت غاية فيما هي وسيلة توصل إلى الغاية العظمى، كل ما سبق ليس رؤية خاصة بي، وإن كنت أتفق مع جل ما جاءت به، ولكنها رؤية لرائد تجربة التحدث بالفصحى الدكتور عبد الله الدنان الذي تابعت تجربته عن كثب وقبله تشومسكي العالم اللغوي الشهير، فماذا ترون أنتم؟