.. و"امقرية" هنا هي مفردة "القرية" ولكن باستبدال "ال" التعريف بـ "ام" الحميرية، وأما "عوال" فهي مفردة جنوبية تعني "أبناء".

خلال فترة سابقة صاحب مصطلح "عوال امقرية" أو "ولد امقرية " الشبابَ القادمين للمدينة وما زالوا يحملون قيم وثقافة وعادات القرى، فأصبحت السخرية منهم تستلزم وصفهم بذلك، وامتهن إطلاق تلك السخرية وتوزيعها أبناء المدنية أو أبناء القرى المعجبون بالمدنية، أو ممن رضعوا شيئا بسيطا من تلك المدنية، وقد يقول آخرون باستبدال "المدنية " بـ"الحضارة" فيما سبق، إلا أنني أرى أن الحضارة لم تكن محصورة بالمدن ومنزوعة من القرى وسكانها، بل إن الكل يسهم فيها، وربما يغضب البعض عندما يطلق عليه مصطلح "ولد امقرية"، ولكنني اليوم أدعوه لأن يفتخر بذلك، وأدعوه لأن يصنع من القرية التي حضر منها ملهما لنجاحه وفخره بذاته ومجتمعه؛ فالقرية كانت وما زالت تخرج من أوطانها من يصنعون المجد والتنمية والتطوير والإنجاز لمجتمعهم القروي الصغير، ومن يصنع ذلك لقريته فسيصنعه في يوم ما لوطنه الكبير.

سأحدثكم عن مجموعة من "عوال" قريتي، التي تقع في الشمال الغربي لمدينة أبها، وما صنعوه لمجتمعهم القروي البسيط، ليكونوا ملهمين لغيرهم، ومثالا ناجحا في أوساط قرى عديدة تتشارك معنا الانتماء والبيئة والتاريخ والمصير.. عملوا منذ ما يزيد على نصف عقد لمشروع حضاري وتطويري عظيم. وأقول عظيم هنا لأنني أرى نتائجه على الواقع أمامي، فمنذ بدء تزاحم الأفكار لدى بعض الشباب خرج بعضهم باقتراح في وقت غير مناسب، ولكن هذا الاقتراح وصل للعقل والقلب المناسب للكثيرين ممن سمعوه، ومنذ تلك اللحظة والأفكار تتوالى، والعطاء لا ينضب، فعرف "عوال امقرية" ملتقى صيفيا ينبض بالحياة لست سنوات، ونشأت من ذلك الملتقى نشاطات ثقافية واجتماعية ورياضية، فكان للثقافة حضورها بالمسابقات الثقافية ومسابقات القصة القصيرة والمقالة، وكذلك في الفنون كالرسم والخط وفنون المسرح، وكان للمجتمع أن وهب للمتفوقين منهم في التعليم العام جوائز سنوية، وكذلك تكريم الحاصلين على كل درجة علمية عالية، وللمرأة في مجتمعهم أهمية ورعاية وتحفيز وتشجيع وتكريم، فلها سنويا جائزة مخصصة، وكذلك هناك اهتمام بالمخلصين في مجال عملهم وخدمتهم لأرضهم. وأما الرياضة فلم ينقطع حبل العطاء في هذا المجال على أرضهم منذ سبع سنوات، في تنظيم مميز لدورات رياضية صيفية سنوية، وكان أن خرج هذا الملتقى أيضا بيومٍ للطفل، في بادرة لم يسبق إليها أحد بالمنطقة تقريبا، وفي هذا اليوم ترى ابتسامات الفرح تعلو وجوه الأطفال الذين لم يحلموا أن يروا أنفسهم بهذه الميزة، ولم يخيل لهم يوما أنهم سيجمعهم جميعا مكان واحد ويوم واحد وجوائز عديدة. وللتطوع في أنفسهم قصة، ترجموها في إنشاء نادٍ تطوعي باسم أرضهم التي أحبوها، بنظام وميثاق وعمل مؤسسي مميز، ثم بدؤوا بما يملكون من إمكانات بسيطة يحثون الخطى نحو تحقيق آمالهم، وتفعيل خططهم ورؤاهم، فطبقوا أعمالا عديدة، أوصلهم آخرها إلى جائزة "رؤية" التي نظمها مجلس شباب منطقة عسير، واحتفى بهم أمير المنطقة ضمن المحتفى بهم في ذلك المساء الأبهاوي الجميل، وكان سموه قد احتفى قبل عامين بهم في حفل معايدة قبائل ربيعة ورفيدة وبني ثوعة، ولم تتوقف الهمم عند ذلك الحد، فهي من أقامت لهم مركزا إعلاميا يديره شباب أرضهم بكل مهنية واحترافية، وجوالا يربطهم بآخر الأحداث والأخبار، وحسابات بكافة مواقع التواصل الاجتماعي.

وأثق أنه لا يزال هناك ما يتطلب الكثير مني ومنهم.. وإن كنت أخصهم بشيء فهو هذه الكلمات: إن لحظات المجد والفخر والإنجاز لا تتكرر كثيرا في حياة الإنسان. وخطوات التقدم والتطور والبناء لا تتوالى سريعا في تاريخ الأمم والحضارات، ولكن هنالك مكان كسر كل هذه القواعد والمسلمات، فأصبح ينجز في العام مرات ومرات، وخطوات النجاح فيه ولديه لا تتوقف، يفاخر بالتاريخ وبالحاضر وسيفاخر بمستقبله، وليس للمكان ميزة بحد ذاته، ولكن إنسان المكان هو الميزة والموهبة والخير، يساهم بكل طاقاته ودعمه وتشجيعه، عمل وما زال يعمل.. فكر وأنتج وما زال يفكر ليطور ويبدع.. هذا المكان هو قرى الطلحة بعسير، وكل روح فيها هي التي صنعت لها مجدها وفخرها وعزتها وتميزها. بالأمس حصدنا جائزة جديدة في مجال الأعمال التطوعية، لتكون هذه الجائرة نورا يشع للمزيد من الإنجاز في طريق العمل.. تشرفت شخصيا بأن استلمت جائزة "رؤية" من يد أمير عسير بالنيابة عنكم، الغد أجمل وغدا نصنع إنجازا، ونبني صرحا، ونعلي الصوت فخرا، فشكرا لكل الداعمين والمشاركين.. شكرا لكل أهالي أرضي، قرى الطلحة بعسير، وشكرا لـ "عوال امقرية" فقد خلدوا في السير صفحات عنهم، فاعملوا يا بشر لأرضكم وأحبوها.