كم سيحتاج هذا الجيل كي يفهم أن بعض المهن التي يخجل منها الآن، لن تكون في يوم من الأيام حكرا على الوافدين فقط، وإنه إذا لم يتنبه جيدا لمستقبله، فإنه حتما لن يجد وسيلة أخرى للعمل إلا في هذه المهن، التي كان يرفض حتى فكرة أن يكون أحد من بني جلدته يعمل بها.

وقبل أعوام حين أقرت وزارة العمل، على ضرورة سعودة بعض الأعمال والمهن في المنشآت التجارية، لم يجد أصحاب هذه المنشآت إلا الأعمال قليلة المردود؛ كي يتنازلوا عنها للمواطنين والمواطنات، لذا فلم يكن الأمر مستغربا حينما وجدت في يوم بعيد، عددا كبيرا من السعوديات الشابات يعملن في مهنة النظافة بشهادة الثانوية العامة، وقد كان من المتعارف عليه أن هذه المهنة تحديدا، يقوم بها من لا يحمل شهادة تعليمية عالية، ولم يكن الأمر هينا عليّ في ذلك الوقت، فلم أكن كمواطنة متقبلة أن تعمل فتاة تحمل الثانوية العامة في تنظيف الحمامات والممرات وتغيير الشراشف وإفراغ الحاويات. برغم أنني أعلم جيدا مدى حاجتهن للعمل، وللخروج من أبواب البيت، وإيجاد أي مخرج موقت للعمل في أي مهنة، حتى يتسنى لهن أخذ الخبرة الكافية وبعدها تتم انطلاقتهن تجاه وظائف أخرى، تليق بشهادتهن وتعمل على تعزيز الثقة بداخلهن.

بعد أن تركت العمل في ذلك المكان الذي كان يغص بالبتلات الصغيرات عاملات النظافة، لا أعلم ماذا حل بهن الآن؟ وقد كنت أشعر بالخجل وأنا أراهن يتناصفن العمل مع أخريات من جنسيات آسيوية لا يقرأن ولا يكتبن!.

وقبل أسبوع بينما كنت أتصفح إحدى الصحف الكويتية، توقفت أمام مقال عن عاملة نظافة سعودية واسمها "سعيدة العامري"، وكانت العامري قد عاشت حياة مريرة وكفاحا متصلا، لكنها لم تقف مكتوفة اليدين، فقامت على تطوير نفسها من عاملة نظافة إلى طالبة ماجستير، وكانت مناسبة المقال، مكافأة وزارة العمل للعامري بمنحها جائزة الإصرار التي تقدر قيمتها بـ100 ألف ريال، لتكون منطلقا نحو تحقيق أحلامها التي تبدأ بتقديم رسالة الماجستير حول ذوي الاحتياجات الخاصة، وهي الفئة التي تخدمها.

حكت سعيدة عن طفولتها الحزينة، وقالت إنها شعرت بالحرمان الكبير عندما توفي والدها ولم تكن تتجاوز الخامسة من عمرها؛ مما اضطرها للعمل بعد حصولها على الثانوية بأي وظيفة لمساعدة والدتها على العيش. وهي تقول إنها لم تعش طفولتها، وكانت دائما تجد نفسها الكبيرة والمسؤولة عن أسرتها، لذا فقد اضطرت للعمل كعاملة نظافة لعامين ثم حارسة أمن، إلى أن طورت نفسها للحصول على لقب مساعدة معلمة، ثم معلمة فصل مستقل بمفردها.

حكاية "سعيدة" تكتب بماء الذهب، وبالتأكيد فهي تستحق هذه الجائزة وبجدارة، بعد قراءتي للمقال بدأت في قراءة التعليقات التي صبت في مجملها، كيف لبلد غني وثري جدا، يدفع ببناته للعمل كعاملات نظافة؟ التعليقات مؤلمة، وفيها تشكيك لمصداقية القصة، ولكن لأنني ابنة هذا البلد، فالأمر لا يدعو للتشكيك أبدا، وهناك ألف سعيدة يعملن من أجل إعالة أسرهن، ومن أجل أشياء أخرى كلها تنصب في دائرة الكفاح، لذا فلا بأس أن تجد الكثيرات وقد ارتدين النقاب؛ كي يسترن عجزهن أمام المجتمع.

كل ذلك في كفة، وتفنن صحف الخليج والصحف العربية في نشر الأخبار المتعلقة بكل ما يحدث في السعودية في كفة ثانية، فقصة "سعيدة" تم نشرها في جريدة عكاظ، وقامت عدد من الصحف الخليجية عقب ذلك بالتناوب على نشرها، ولا أعرف ما الهدف من أن تقوم جريدة كويتية بنشر قصة كفاح "سعيدة" من تنظيف الحمامات العامة وصولا إلى شهادة الماجستير؟! وهو أمر محلي ولا أظن أنه يهم المجتمع الكويتي أن يعرف القصص التي تحدث في مجتمعنا، فعندهم ما يفيض ويزيد. الأمر مثير للحيرة والحموضة أيضا، فلو قمت الآن وتصفحت بعض صحف الإمارات، فإنك ستشعر بأن هذه الصحف لا تعيش إلا على أخبار ما يحدث للسعوديين، في حين أنها تفرض طوقا هائلا على ما يحدث داخل نسيج مجتمعها، وهو أدهى وأمرّ ومخجل في الوقت ذاته، وعليك أن تقرأ تعليقات الوافدين والمواطنين على الأخبار التي تتسابق صحف الخليج بنشرها عنا، ستجد السخرية والغمز واللمز لوطني الذي هو كبقية الأوطان، يحمل بين طياته الكثير من المشاكل والقصص والأحداث.

ودول الخليج تغرق في قصص مليئة بالمتناقضات، لكن صحفهم تفرض حصارا هائلا في عدم نشر مثل هذه الأخبار، في حين أنهم يبدعون في رسم صورة نمطية "سيئة" عن الرجل والمرأة السعودية؛ لأن هذه القصص هي التي تكسب صحفهم تسويقا هائلا ومزيدا من الإعلانات. وعموما رغم تعليقات مواطني الكويت على قصة "سعيدة"، فستبقى هذه الفتاة وجها مشرفا لا نخجل منه، فنحن على الأقل لا نتكسب من قصص مواطني دول الخليج!.