رغماً عني ترقرق الدمع في عينيّ وأنا أشاهد أطفال شهيد الواجب "عبدالرزاق الغامدي" وهم في أحضان سمو وزير الداخلية أثناء زيارته لهم للتعزية، وقد أضحوا يتامى. حزني من أجلهم هو امتدادا لحزني البالغ إثر كل نبأ يصلني معلناً وفاة المزيد من جنودنا على الحدود السعودية - اليمنية، التي أعدها شخصياً من أخطر الحدود على أمن وسلامة جنود "حرس الحدود السعودي"، نظراً لما يواجهونه من تبعات الفوضى السياسية والاقتصادية والأمنية اليمنية، التي نتج عنها عمليات تهريب خطرة ومستمرة وشديدة الجرأة في التعدي على جنودنا، الذين يواجهونهم بشجاعة وتحد وفداء للوطن والذي تشهد عليه دماؤهم الطاهرة التي لا يعوضها شيء، مهما فعلنا من أجلهم، ومهما قمنا بواجبنا تجاه أطفالهم وزوجاتهم وذويهم.
أصبحت خريطة الحدود السعودية اليمنية أكثر وضوحاً بعد التصديق النهائي على ترسيم الحدود بيننا وبينهم والذي تم توقيعه في منتصف عام 2002. هذا الوضوح منح السلطات الأمنية في البلاد رؤية أفضل لحفظ أمن الحد الجنوبي ورفع مستوى الحواجز الأمنية والعمل على تطويرها لتصبح سداً منيعاً في وجه كل يد تحاول المساس بأمن وطننا إلا أن كل ذلك لن يكون كافياً، وقد يكون أمراً مستحيلاً ما لم يتحسن المستوى الاقتصادي ويستقر الوضع السياسي في الجمهورية اليمنية الشقيقة. ومهما ملكنا من قوة في مواجهة تبعات تردي أوضاعها الاقتصادية والسياسة فإنه لا بد من أن تكون هناك آثار سلبية لا يمكن الحد منها، مهما فعلنا ورصدنا من الميزانيات الكبيرة في رفع مستوى أمن الحد الجنوبي، ولنا في الأمن الذي يعم حدودنا مع شقيقتنا الإمارات العربية المتحدة خير مثال على أن الوضع الاقتصادي والسياسي للدول المجاورة هو ما يحدد مستوى أمن حدودنا معها.
لو حاولنا الاستفادة من تجربة الولايات المتحدة الأميركية مع جارتها المكسيك لوجدنا أنها جندت أكثر من 20 ألفاً من مواطنيها ودعمتهم بأقوى التقنيات الحديثة وإنفاق ما يفوق الـ25 مليار دولار سنوياً لتمويل إجراءات الأمن على حدودها مع المكسيك إلا أن كل ذلك لم يترك أثراً حقيقياً على حركة تهريب المخدرات، ولم تستطع خفض أعداد المهاجرين غير الشرعيين الذين وصلت أعدادهم في عام 2012 إلى ستة ملايين وثمانمئة ألف، في مؤشر قاطع على فشل كل محاولات الحكومة الأميركية لحفظ حدودها مع المكسيك والتي جعلتها تغير سياستها تجاه أوضاع جارتها الاقتصادية وتبذل الدعم، ليس من أجل "سواد عينيها"، بل من أجل الحد من الأعداد المتزايدة من المهاجرين غير الشرعيين وتنامي عمليات تهريب المخدرات، وخفض نسبة بطالة مواطنيها التي ارتفعت نتيجة تفضيل بعض أصحاب العمل في أميركا للعمالة المهاجرة التي تعد أرخص في الأجور، مقارنة بأجر المواطن الأميركي. بلورت أميركا مساعداتها لجارتها المكسيك عبر دعمها لجهود الحكومة المكسيكية في محاربة زراعة وتجارة وتهريب المخدرات بدعمها استخبارتياً وعسكرياً ومادياً، وامتد دعمها لتوقيع اتفاقية "النفاتا"، التي من أهم ثمارها أن أصبحت المكسيك صاحبة أعلى نسبة من الواردات المعفاة جمركياً على مستوى العالم بنسبة 94% والتي كان لها نتائج إيجابية على الاقتصاد المكسيكي. تؤمن الولايات المتحدة الأميركية الآن أن أمنها واقتصادها وحماية حدوها الجنوبية تعتمد بشكل أساسي على مستوى الاقتصاد المكسيكي، الذي كلما تحسن،انعكس بشكل إيجابي عليها، ولذلك فهي بقدر الإمكان لا تتردد في مد يد العون للحكومة المكسيكية في كل المجالات.
حكومتنا الرشيدة لم تغفل أهمية وتأثير مستوى اليمن الاقتصادي على أمن وطننا الغالي، لذلك كانت هناك مبادرات قوية لدفع عجلة الاقتصاد اليمني والتي أكدها صندوق النقد الدولي، الذي صرح بأن الدعم السعودي الاستثنائي أنقذ الاقتصاد اليمني من الانهيار، ورغم ذلك إلا أن الاقتصاد اليمني لا يزال هشاً ولم يتعاف، وكل ما نراه من مخاطر على حدودنا المرتبطة باليمن الشقيق ما هو إلا نتاج الوضع السيئ لاقتصادها، ولحفظ أمن وطننا يجب علينا أن نعي تماماً بأن ما تقدمه حكومتنا من دعم مادي للدول المجاورة ليس إغفالاً منها لأحقية بعض الملفات الداخلية التي تحتاج إلى المزيد من الدعم المادي مثل أزمة الإسكان، بل لوعيها أن أمننا وراحتنا واستقرارنا وخفض نسبة المجهولين والخطر الداهم الذي يتربص بفلذات أكبادنا إثر تزايد تهريب المخدرات، مرتبطة بشكل أو بآخر بالوضع الاقتصادي للدول المجاورة، التي من أهمها جمهورية اليمن الشقيقة، لما لسوء وضعها السياسي والاقتصادي من تأثير مباشر على ارتفاع نسبة التهريب على حدودنا معها، واستغلال إيران ذلك في دعم الحوثيين لتهديد أمن حدنا الجنوبي والذي ذهب ضحيته العديد من جنودنا الذين يقفون بصمت على حدود الوطن، يدفعون بأرواحهم دوننا، بينما نجد بعضنا يثرثر وينتقد في كل مرة تعلن فيها الحكومة دعمها للدول المجاورة، جاهلاً دور ذلك في حفظ أمننا.
كان السوفييت في الحرب العالمية الثانية ينشدون أنشودة تقول:
إذا فقد الجندي ساقيه في الحرب.. يستطيع معانقة الأصدقاء
إذا فقد يديه.. يستطيع الرقص في الأفراح
وإذا فقد عينيه.. يستطيع سماع موسيقى الوطن
وإذا فقد سمعه.. يستطيع التمتع برؤية الأحبة
وإذا فقد الإنسان كل شيء.. يستطيع الاستلقاء على أرض وطنه
أما إذا فقد أرض وطنه.. فماذا بمقدوره أن يفعل؟!