كان هذا محور حوار جمعني الأسبوع الماضي مع الصديق الكاتب الدكتور عبدالسلام الوايل، أستاذ علم الاجتماع، ورغم قصر اللقاء إلا أننا خرجنا بتساؤلات ملحة ومفيدة في الوقت ذاته، فالسؤال ليس مفتاح الإجابة فحسب، بل هو مفتاح "التنوير" والتثقيف كما يقول المسرحي الفرنسي (أوجين يونسكو).

في هذا اللقاء القصير، عرّجنا على سؤالي النهضة والتنوير، وتجارب الدولة المدنية في دول عربية مثل مصر وتونس، ودول شرقية مثل إيران وتركيا، وقد خرجنا بعلامات استفهام رائعة، والانطباع الذي ساد لدينا هو الحاجة لقراءة التجربة، فمعرفتنا بدواخل بعض هذه التجارب وتكويناتها ليست كافية، وكان هذا الحوار الممتع محفزاً على كتابة هذا المقال.

فمثل هذه التجارب تثبت سهولة طمس "الديني" لـ"لمدني" وهناك مثال واضح في التجربة الإيرانية، حيث إن الهوية "المدنية" التي امتد بناؤها والتأسيس لها في المجتمع الإيراني- في عهد أسرة بهلوي الحاكمة- حوالي 100 عام، استطاع الزعيم الديني آية الله الخميني بثورته "الدينية" هدم هذه الهوية المدنية في عشرة أعوام فقط؛ وبناء هوية "دينية" على أنقاضها، حيث لم يكن الأمر صعباً في استبدال مدنية بُنيت بالتراكم لقرن كامل بهوية دينية وضعت المجتمع الإيراني برمته في عباءات رجال الدين!

في المقابل عمل مصطفى كمال في تركيا على إحلال الهوية المدنية محل الهوية الدينية التي كانت سائدة زمن الدولة العثمانية، من خلال اعتماد العلمانية "الصلبة" وفرضها بالقوة لثمانية عقود، مثّل الجيش التركي فيها "حارس العلمانية" والدولة القومية، إلا أن هذه الهوية مرت بمراحل انكشف فيه ضعفها أمام الشكل القسري لها، من خلال تبرير الهوية المدنية (العلمانية) في حالات معينة للسيطرة من أجل البقاء في خانة النخب العليا ذات الميزات المختلفة، فيما بدت هذه الهوية تتوارى خلف إشكاليات عديدة منها عودة المجتمع السريعة إلى التدين عند أول فرصة تسنح له لتشكّل الأغلبية الصامتة، بالإضافة إلى إشكالية أخرى تتمثل في دمج "الأقليات" في هذه الهوية، إذ ما تزال بعيدة ولا سيما الأكراد والأرمن والأقليات الدينية الأخرى، التي ما زالت تشكل عقبة أمام تعميم الهوية المدنية للمجتمع في الدولة.

بالنسبة للتجربة "المدنية" في مصر كانت محصورة في المدن، والقاهرة أهمها بطبيعة الحال، وهي في ذلك تحاكي التجربتين الإيرانية والتركية من هذه الناحية؛ ولذلك لم تتجاوز شواهد هذه المدينة-منذ تجربة محمد علي باشا إلى منتصف الستينيات تقريباً- منطقة "وسط البلد" في القاهرة التي تشكل اليوم أهم الشواهد المدنية، لا على المستوى العمراني بطبيعة الحال، وإنما على مستوى مرحلة التحديث والتمدن التي مرت بها مصر كدولة مؤسسات وحريات عامة، واستطاعت أن تكون مأوى للاجئين إليها من مختلف دول وأقاليم أوروبا في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، بالإضافة إلى مركز لمسيرة "التنوير" الفكري العربي خلال تلك الحقب التي توقفت تماماً عن أن تكون كذلك اليوم، فموجة التدين الأيديولوجي التي مرت بها مصر هي نتيجة لأحد مظاهر "تريّف" المدينة العربية التي يكون فيها التحديث في السطح ولا يصل إلى العمق.

أما بالنسبة للتجربة التونسية، هي أيضاً نتاج مشروع مشابه، من خلال تجربة الرئيس الراحل بورقيبة الذي تأثر فيها بتجربة أتاتورك، وبذلك تكون الإشكالية التمدن هي ذاتها، حيث قد تشهد عودة سريعة إلى "التدين" الأيديولوجي وفقدان هويتها المدنيّة الجزئية، ولا أحد يضمن أين يؤول بها الحال!

في هذه القراءة السريعة لمثل هذه التجارب، يتجلى فيها الإهمال لتعميم تجربة المدنيّة من جهة، وحصرها في جوانب محددة، رغم أن المدنية ليست انتفاء التدين والشعور الروحي الذي هو حاجة عاطفية وإنسانية قبل كل شيء، وهذا ما سطّح المدنية في هذه التجارب، ومن جهة أخرى يحضر القسر ليلغي القناعات في التحديث والمدنية، مقابل التمسّك بالهويات الأخرى (الطبيعية) التي يعود فيها المجتمع لثقافته التي تربى عليها قروناً.. وهذا ما تخلصت منه أوروبا اليوم فـ"المدنيّة" فيها ليست عدو الشعائر الدينية إنما هي أحد حُماته.