الفكرة الأساس التي يتكئ عليها مقال اليوم هي التأكيد على أن الاستثمار النوعي هو الضامن الوحيد لإقامة تنمية وطنية عادلة متوازنة تعطي أقاليم ومناطق الأطراف الوطنية فرصة حقيقية لدخول عالم القطاع الخاص من بوابة استثمار حقيقي لا وقتي أو موسمي. واليوم سأسرد نجاح مجرد أنموذجين من هذا الاستثمار، للبرهان، ولو على سبيل المثال أن رهان منطقة مثل "عسير" على مجرد الاستثمار السياحي بمخاطره ومصاعبه ليس إلا تخديراً لمنطقة مكتملة تنام على بوابة "المستقبل". تكتشف "عسير" مثالاً أن رهانها الطويل على بوابة المشروع السياحي، قد انتهى في السنوات الأخيرة على مجرد شهر "حي" بين إخوانه الأحد عشر الميتة الأخرى بفضل عوامل مختلفة منها طبيعة التقويم الصيفي الذي أدخل شهر رمضان المبارك في قلب موسم الصيف، ومنها انحسار الغطاء البنائي، وثالثها، طبيعة التخطيط التنموي الذي لم يحترم "أيقونة" هذه المنطقة ولم يقرأ ورقة واحدة من صفاتها الطبوغرافية والمناخية ولم يلتفت للعامل البيئي الصرف وهو يفرض أفكاره التنموية المادية الصرفة في امتهان صريح متعمد لطبوغرافية وبيئة وأيقونة هذه المنطقة وهذه المدينة. والقصة أنني مع هذه الممارسات، أخشى أن تكون "عسير" مثالاً، قد وصلت إلى خط "اللارجعة" في رهانها على مستقبل المشروع السياحي وبات من الجوهري اليوم أن نفكر في البدائل. ما هما الأنموذجان المشار إليهما بعاليه؟

الأول: يمتلك "أبوهشام" اليوم واحداً من أكبر المصانع العالمية على الإطلاق في صناعة الدهانات والملونات التي ابتدأت ذات يوم بفكرة صغيرة. وتحت ضغط "الاحتكار" ابتدأ "أبوهشام" فكرته قبل ثلاثة عقود بالهروب إلى "الشارقة" الإماراتية ليبني المصنع "النواة". جاء "أبوهشام" ذات يوم بعيد سائحاً إلى عسير وفي صدفة لقاء نادرة شاردة مع رئيس الغرفة التجارية بأبها تعهد له الأخير باستخراج رخصة تصنيع صناعية لهذا "البيزنس" المحتكر وطنياً من قبل. واليوم... ومن مصنعه الضخم في شمال خميس مشيط يندر أن تجد بيتاً سعودياً واحداً يخلو من بصمة وألوان أبي هشام وأكثر من هذا فمن شمال خميس مشيط، تصل لوحات أبي هشام إلى أربعين بلداً في أربع قارات مختلفة عن طريق التصدير بما فيه دخول مصنعه إلى أسواق الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا في مجال "الملونات" التي يطلبها ما يزيد عن مئة صنف من "بيزنس الأصباغ" التي تشاهدها من اليقظة إلى النوم، وعلى كل ما تقع عليه عيناك من تفاصيل يومك المكتمل. ومن فكرة صناعية واحدة نبتت له عشرات الأفكار وهنا نصل للمهم: فكرة صناعية واحدة تعمل اليوم على فتح بيوت ما يزيد عن 500 أسرة تعمل معه في منطقة سعودية واحدة من أبناء هذا الوطن.

الثاني: أنموذج كلية ابن رشد الخاصة للتعليم العالي بأبها، مجموعة من المستثمرين الذين غامروا بشراء تصريح كلية "غير نفعية" ثم تحويلها إلى مؤسسة تعليم خاصة بشروط الربحية ولكن تحت شرطين جوهريين: أولاً جودة ونوعية المنهج والمحتوى وفق شروط قاسية وتحت ضوابط مؤسسات قياس وتأهيل عالميين، وثانياً، ضوابط اختبارات أعضاء هيئة التدريس التي تجعل من كلية خاصة منافساً يتفوق في الاختيار على إمكانات الجامعة الحكومية المتفوقة بميزانية مكشوفة. وعدا عن عشرات الوظائف التي فتحت بيوتاً بفضل مثل هذه المغامرة، فقد ضمنت هذه الفكرة لآلاف من أبناء هذه المدينة تعليماً نوعياً قاسياً بالغ الانضباط في الجودة والنوعية وأصبحت اليوم تستقبل مئات المنح الدراسية بفضل البناء الأساسي في الشروط والضوابط التي قد تغير كثيراً من مفاهيمنا الوطنية عن التعليم الخاص.

يبرهن نجاح مثل هذا الاستثمار النوعي في التعليم، أن عسير بمناخها وكل ظروفها قد تكون المنطقة السعودية الأولى القادرة على احتضان جامعة خاصة بهدف ربحي يوائم ما بين الجودة وبين الصرامة والربحية.

والخلاصة أن "أنموذجين" بمثل ما ذكرت قد يبرهنان فتحاً مختلفاً إلى شراكة القطاع الخاص في التنمية الإقليمية بما يرفع الكاهل عن الدفع الحكومي المفتوح.

ومع هذا يؤسفني جداً أن أعيد لعيونكم قراءة رقم جديد كتبته قبل فترة.. أن حصة منطقة مثل عسير من القروض الحكومية المختلفة أقل من 2% رغم أنها رابع منطقة سكانية. ومن المفارقة المذهلة أن المنطقة السياحية الأولى على مستوى المملكة لم تحصل سوى على نصف بالمئة من جملة القروض السياحية الوطنية.