تربية الأبناء أبداً ليست بالعملية السهلة، إنها مسألة تتطلب الصبر والمثابرة والكثير من السهر والقلق وحمل الهم وتوفير بيئة آمِنة وتحسينها على الدوام، إنهم أمانة وعلى الآباء أن يُؤدوا الأمانة على أكمل وجه، رغم هذا إلا أن تربية الأبناء ليست بتلك العملية المعقدة التي تتطلب دورات واستشارات أسرية على كل صغيرة، كل ما يحتاجه الأمر أن يتحلى الآباء بطيبة القلب المصاحبة للوعي فلا يُعنِفون أبناءهم ولا يُدلِلونهم.
لن أتحدث هنا عن أولئك الآباء المرضى الحاقدين على أبنائهم اعتقاداً بأنهم السبب وراء كل بلاء، إنما أتحدث عن ذلك النوع من الآباء الذي يعتقد أن الكثير من طيبة القلب والعطف والحنان سيكفي، أتحدث عن ذلك الأب الذي لا ينهر ولا يصرخ ولا يُحاسِب ولا يُعاتب إن أخطأ الأبناء، والأسوأ أن يُسارِع الخُطى لمحاسبة ومعاقبة ومعاتبة المُعلِم إن نهر ابنه أو عاقبه، أتحدث إلى تلك الأم التي يدفعها دلالها لابنتها إلى خوض الشجارات مع فلانة وعلانة بسبب مشاكل الصغار، إلى هؤلاء الآباء طيبي القلب بلا وعي أقول: إنكم آباء سيئون.
آباءٌ سيئون يعتقدون أن دورهم ينتهي بضخ الكثير من المال، يوفِرون أفخم مأكل ومشرب وأغلى ملبس، ثم وحين يكبر الأبناء يشتكون من العقوق والجحود ونكران الجميل، طبيعي أن يكون هذا هو حصادكم فأنتم لم تمارسوا تجاههم أيُ تربية ولم يجدوا منكم أي توجيه أو إرشاد، كل الذي وجدوه هو رعاية كرعاية الراعي لغنمه حين يوفر لها المأكل والمشرب والبيئة المناسبة.
آباءٌ سيئون موظفون، الأب في وظيفة والأم في وظيفة، يذهبون بأبنائهم إلى المدارس الخاصة ويدفعون الكثير من المال لا لكي يُصبح الأبناء أذكى إنما بحثاً عن راحة البال، فكلاهما "الأب والأم" مشغول ويريد أن يثبت ذاته في الوظيفة وأن يترقى ويُنجِز، كل هذه المسؤوليات الوظيفية تجعلهما يعافان متابعة الأبناء دراسياً وبعضهم يضحي بمسؤولية التربية من أجل كسب المزيد من المال.
وهذه حالة عن زوجين كل واحد منهما يعمل في وظيفة مختلفة، كل واحد منهما له مكانة ومنصب في الجهة التي يعمل بها، ولديهما طفل في الثالثة من العمر، ونظراً للتضارب بين مهام الوظيفة ومهام التربية كان الحل الأمثل بالنسبة لهما أن يذهبا به إلى إحدى الحاضنات من الساعة السابعة صباحاً وحتى التاسعة مساء!. وإني لأسأل هنا: حين يكبر هذا الطفل كيف سيكون تعامله مع أبوين لا يعرفهما؟ سيكبر الطفل وسيصبح شاباً، وسيشيب الأبوان وحينها سيجنيان الشوك والشكوى فقط لأنهما لم يزرعا إلا الشوك الذي تكبدا من أجل زراعته أموالاً طائلة بغباء.
آباءٌ سيئون، يوفرون لأبنائهم الكثير من الأجهزة الإلكترونية، يتركونهم بالساعات أمام شاشة التلفاز، يُوهِمون أنفسهم بأنهم بهذا يُكيِّفون أبناءهم مع متغيرات العصر، غير مدركين أنهم بهذا تحديداً يُدمرون أبناءهم، يصنعون منهم كائنات عالة على المجتمع، فتعامل الأبناء مع الإعلام والتقنية في الحقيقة لا يُقدِم معلومة إنما يُسهِم في تغييبهم وتجهيلهم، تعاملهم مع كل هذه الأجهزة لساعات طويلة سيجعلهم يجهلون أنفسهم أيضاً ولن يعلموا أبداً ماذا يملكون من مواهب وماذا يُجيدون أو يحبون.
آباءٌ سيئون ينظرون إلى تربية الأولين "الأجداد" على أنها تربية خاطئة بالكلية لا يصلح تطبيقها اليوم، فراحوا يبتكرون أساليب حديثة في التربية ما أنزل الله بها من سلطان، أساليب حديثة الغالب فيها أنها تصنع إنسانا مائعاً ليناً غير مُهيأ لمواجهة صعوبات الحياة، قالوا: لا تضرب طفلك ولكن ابتسم له، قبله، عانقه، امدحه، حاوره إن أخطأ، كافئه إن أصاب. إلا أنهم لم يقولوا لنا: هل سيجد هذا الطفل من سيبتسم له ويُعانِقه حين يغدو شاباً وينزل لسوق العمل؟ هل سيُكافأ إن أصاب وسيُحاوَر إن أخطأ؟
إن كان التسلط والتجبر والعنف أشياء بغيضة أثناء تربية الأبناء فإن ما يُمارس اليوم من مغالاة في الدلال لن ينشئ إنساناً سوياً، فكثير من أبناء اليوم لا توجد في حياتهم كلمة "لا" على الإطلاق، ولا يُرفض لهم طلبا، وإن أخطأوا لا يُعاقبون، والأكثر خطورة أن أولئك الآباء السيئون يحمون أبناءهم من كل شخص يُحاوِل تأديبهم على ما يرتكبونه من أخطاء، يحمونهم من أخوالهم أو أعمامهم أو مُعلِميهم في المدرسة، ومثل هذا الطفل الذي تشبّع بدلال والديه لن يعبأ بإظهار كل ما فيه من أنانية وتسلط وغرور وغطرسة تجاه الآخرين؛ لأن لديه قناعة تامة بأن خلفه "آباءٌ سيئون" دائماً يُدافعون عنه، وسيكبر هذا الطفل ولن يجد من يُدافِع عنه مستقبلاً.
فيا أيها الآباء السيئون، إن كانت مناصبكم الوظيفية أهم فلماذا تُنجِبون؟ إن لم يكن لديكم الوقت الكافي للاعتناء والتربية فلماذا تُنجِبون؟ إن كنتم تخافون على أبنائكم من الهواء، فثقوا أنهم سيكونون الأكثر عرضة للأمراض؟ إنها التعاسة أن يعيش الطفل في سجن ويُضيّق عليه ويختنق حتى لا تُصيبه عدوى رغم أن البكتيريا أكثر ما تبحث عن المدللين المائعين.
يا أيها الآباء السيئون، في الحديث عن النبي الكريم – عليه الصلاة والسلام- "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته" فاتقو الله في أبنائكم.