جاء أمر خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز رئيس مجلس الوزراء، رئيس مجلس التعليم العالي-حفظه الله- بإنشاء ثلاث جامعات جديدة في كل من: محافظة جدة، ومحافظة بيشة، ومحافظة حفر الباطن، بعد تحويل فروع الجامعات الأخرى في كل محافظة إلى جامعة مستقلة، وهذا تتويج لمنظومة الجامعات الحكومية التي بلغ عددها بعد هذا القرار 28 جامعة حكومية، منها جامعة إلكترونية.
نحن أمام فرص تاريخية تتحقق تباعاً في عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز لتختصر زمناً طويلاً من الانتظار، فمعظم أفراد الجيل الحالي من الطلاب الجامعيين في السعودية رأوا الجامعات في مناطقهم، ولم تكن لديهم حاجة إلى العيش في مناطق أخرى للدراسة كما كان يحدث لأجيال سابقة، وهنا تكون الفرصة سانحة أمام هذه الأجيال لتنمية المجتمعات المحلية في مختلف مناطق ومحافظات المملكة، حين يكون هؤلاء الأفراد من الجيل الصاعد فاعلين ومساهمين في التنمية البشرية بمجتمعاتهم المحليّة.
لم يعد المفهوم الحديث للجامعة حصراً على كونها مكاناً للتعليم والعمل تنتهي علاقة المنتمي لها بعد الخروج منها، سواء أكان هذا الفرد طالباً أو عضو هيئة تدريس أو موظفاً في مختلف المواقع الجامعية؛ وبذلك تكون هنالك فرص جديدة للتنمية، وخاصة في ظل وجود تجارب عالمية لنشوء مجتمعات بأكملها نتيجة تأسيس جامعة ما، وهذا الأمر حدث ويحدث في معظم دول العالم مثل جامعة "كامبردج" العريقة، وتوجد جامعات أخرى كان نشوؤها محكاً حقيقياً في ولادة مجتمعات ثرية في تكوينها الثقافي والاقتصادي والعلمي.
وترتبط هذه الفرصة التاريخية بقدرة مؤسسات التعليم العالي على الإبداع وصناعة نمط جديد من المجتمع تحركه الجامعات وتنقله من طور السكون إلى التفاعل والإبداع في شتى المجالات وأهمها الجانب الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، فالجامعة يفترض أن تكون هي النواة المحركة للتطور الاجتماعي، من خلال تنمية المجتمع التي تأتي في الأهمية قبل تنمية الفرد، وهنا يصبح شرط وجود استراتيجيات طويلة المدى تحكم هذه العلاقة بين النواة ومحيطها أمراً حتمياً، وتزيد الحاجة إلى وجود مجتمع أكاديمي فاعل داخل الجامعة لا تنتهي فيه العلاقة بعد الابتعاد عن أسوار الجامعة، بل إعادة تكوينه من جديد على أسس منهجية علمية يستطيع فيها أن يكون منافساً من جهة وقادراً على تكوين مجتمع معرفي من جهة أخرى.
وإذا ما توسعنا قليلاً في نظرة عابرة لمؤسسات التعليم العالي في البلدان العربية لا بد أن نرى أن أعرق الجامعات العربية قد تراجع دورها التنويري المأمول والمفترض كنتيجة للتغيرات التي صاحبت الحياة الحديثة والمعاصرة وعدم مواكبة الجامعات لهذا التطور المتسارع، حيث لا يزال الدور التقليدي للجامعة مسيطراً على بقية الأدوار المفترضة، وهذا جدير بأن يعيد النظرة إلى المنتج، وهو العقل الفردي والاجتماعي، الذي ما زال يعاني من معضلة "التنميط" وسيادة الفكر الأحادي الجانب رغم التقدم الهائل في الجانب المعرفي والثقافي عالمياً، حيث لم يعد التفرّد في الدور موجوداً داخل المؤسسات الأكاديمية بعد ظهور مؤثرات معرفية جديدة على مستوى الثقافة والإعلام والتقنية حيث سقطت كل حواجز التحصين ضد التأثير ويبقى التحصين الحقيقي نابعاً من العقل الجمعي ذاته الذي يؤدي فيه الفرد دوراً مهماً قد يصنع الفرق.
اليوم، ونحن نعيش سعادة اللحظة التاريخية في إنشاء هذا العدد الكبير من الجامعات الحكومية والأهلية بفترة وجيزة، بقي لدينا أن نعيد النظر في تكرار التجربة من دون وجود فرص تنموية في هذه المؤسسات، وهنا يكون لزاماً أن تتضافر الجهود في التعليم العام والعالي لصناعة استراتيجية وطنية كبرى تردم الهوة بين مؤسساتهما، والتي يعكس واقعهما اليوم وجود فجوة كبيرة تتضح حين ينتقل المتعلم من مرحلة علمية إلى أخرى أعلى، وبالتالي تكون احتمالية عدم فاعلية هذا الفرد في التنمية كبيرة، وهذا ما يبدد الفرص التنموية المأمول تحققها من هذه المؤسسات.