في الماضي وقبل الدخول في عصر الحداثة، كان المجتمع يعيش تبعا للظروف الطبيعية من جهة، وتبعا للعادات والتقاليد من جهة أخرى، لذا كانت الأحكام الفقهية في تلك الظروف تلعب دورا مهما في حياة المجتمع، وذلك من خلال حفظ النظام الاجتماعي ورفع النزاعات بين الناس.
وكان الناس في ذاك الوقت يعيشون حياتهم اليومية بشكل طبيعي، مقترنة بأحكام الحلال والحرام الفقهية، وبالتالي فإنهم يعتقدون بأن سلوكياتهم خاضعة لتعاليم الشريعة الإسلامية، فقد كان نمط الحياة والمعيشة بسيطا، والفقهاء ورجال الدين قادرون على التعامل مع هذا النمط من الحياة، فكان الخطاب الديني منسجما ومتفاعلا مع المجتمع آنذاك.
وفي العصر الحديث، استقبل الناس حياة جديدة تختلف كليا عن نمط الحياة السابقة، اقترنت بمفاهيم جديدة مثل "التقدم والحضارة" و"التنمية"، التي وقف أمامها الخطاب الديني جامدا باعتماده على الأحكام الفقهية القديمة.
هذا الموقف لم يكن قاصرا على الجمود وحسب، بل امتد إلى مقاومة التغيير والتطوير في المجتمع، وبالتالي تعطيل أهداف التنمية تحت غطاء أحكام الحلال والحرام في الدين كستار لتغطية العجز في التعامل مع متطلبات ومتغيرات العصر الحديث.
في المملكة نشاهد برامج ومشاريع متعددة للتنمية، كلها تهدف إلى تحسين حياة الناس بما يتناسب مع المستجدات في العالم المعاصر، وتوفير ظروف أفضل لمعيشة الإنسان، هذه الخطط والبرامج تمت ترجمتها على أرض الواقع، ولكن هناك بطئا وتأخرا في تحقيق أهدافها، ومن أهم أسباب هذا التأخر موقف بعض الدعاة ورجال الدين المقاوم لهذه الأهداف، فهناك للأسف الشديد عدائية مضمرة للتقدم الحضاري للمجتمع، فضلا عن تجاهل الخطاب الديني لقيم التنمية، والسؤال المطروح هنا هو: كيف نجعل من الخطاب الديني دافعا لتحقيق أهداف التنمية؟
فإذا كانت التنمية تهدف إلى تجسيد التمدن الجديد في واقع الحياة، وبالتالي فإنه لو لم يتم تطبيق حياة الناس على الحياة المعاصرة، فإن المجتمع لا يستطيع الحياة بشكل حضاري، وبما يواكب مقتضيات العصر الحديث، وهذا يعني تكريس ظاهرة التخلف والتأخر في المجتمع.
هذه الحقيقة لا يعترف بها الخطاب الديني المعاصر، فبعض الدعاة والخطباء إذا اعترفوا بالتخلف في المجتمع فإنهم يلقون باللائمة على المسلمين؛ بسبب ابتعادهم عن الدين وحرصهم على الحياة الدنيا والغفلة عن الآخرة، هذا بالإضافة إلى القول إن أهداف التنمية هي السبب في ابتعاد الناس عن دينهم.
وفيما يلي استعرض بعض الشواهد كأمثلة على الموقف السلبي للخطاب الديني تجاه برامج ومشاريع التنمية:
• تضمنت خطة التنمية التاسعة فيما يتعلق بالمرأة والأسرة على "تطوير إسهام المرأة في النشاط الاقتصادي، وتأمين الخدمات المساندة لتمكينها من المشاركة"، وبناء على ذلك صدرت عدة قرارات تتعلق بتوظيف المرأة في القطاع الحكومي والقطاع الخاص، وتوفير فرص العمل لها، فعدّ بعض الدعاة ورجال الدين أن هذه القرارات تهدف إلى إخراج المرأة من بيتها واختلاطها بالرجال، وبالتالي إفسادها وإفساد المجتمع، ولهذا السبب تقاعست كثير من الجهات الحكومية في توظيف الإناث بالرغم من استحداث وظائف لهن، وبعض الشركات والمؤسسات تمارس الضغوط عليهن مستغلة في ذلك عدم الوعي المجتمعي بحقوقهن الوظيفية التي تجاهلها الخطاب الديني المعارض لعمل المرأة، وليس هذا فحسب بل هناك من استغل بعض قضايا التحرش الجنسي كدليل على فساد خروج المرأة، وغضوا الطرف عن القوانين التي تحميهن من ذلك!، فبدلا من توعية الناس بحق المرأة في المشاركة الاقتصادية والعمل على حمايتهن من التحرش وهضم حقوقهن، وذلك من خلال سن الأنظمة والقوانين وتطبيقها، أسهموا في زيادة الظلم عليها علاوة على تعطيل هدف التنمية في هذا المجال.
• فيما يتعلق بالابتعاث الخارجي كأحد أهداف خطط التنمية في مجال تأهيل الكوادر العلمية والتقنية، عدّ البعض ذلك نوعا من تغريب المجتمع، وسلخ الهوية الإسلامية عن الشباب، فبدأ البعض للأسف ينشر قصص الانحرافات الأخلاقية في أوساط المبتعثين، فضلا عن اتهامهم بالانحراف عن العقيدة الإسلامية وتبنيهم أفكار الإلحاد، والتأثير السلبي على تركيبة المجتمع بما تعلموه من عادات منحرفة من وجهة نظرهم، بدلا من الإسهام في تفعيل البرامج والأنشطة التي تسهم في توعية المبتعثين والمبتعثات ودورهم المنتظر في المجتمع، وتوظيف معارفهم وخبراتهم في المجال الاقتصادي للدولة.
• تتجه خطط التنمية إلى وضع تشريعات وقوانين جديدة في كثير من المجالات، بما يتواكب مع المستجدات الحديثة، إضافة إلى تصنيف محاكم الدرجة الأولى إلى خمس فئات حسب الاختصاص، وهي المحاكم العامة، والمحاكم الجزائية، ومحاكم الأحوال الشخصية، والمحاكم التجارية، والمحاكم العمالية، كما صدرت أنظمة قضائية مثل نظام المحاماة ونظام المرافعات الشرعية وغيرها، وبالتالي فإن القانون في هذا النمط الجديد من الحياة يملك مفهوما واسعا ومعنى جديدا، والبعض للأسف يعدّ مثل هذه القوانين نوعا من العلمانية واللجوء إلى القوانين الوضعية، وتركهم حكم الله المتمثلة في أحكام الفقهاء والمفسرين، لذا نجد ضعفا واضحا في مجال الثقافة القانونية، وعدم تفعيل القوانين وتطبيقها على أرض الواقع.
• في المجال الاقتصادي هناك مفاهيم مغلوطة عن الاقتصاد الإسلامي من قبيل مفهوم الملكية ومفهوم العقد التجاري والعمل ومفهوم العدالة، وكذلك عن استخدام المفاهيم القديمة في الاقتصاد الحديث الذي يعتمد على الحرية والتنافسية.
إن إدارة التنمية تعتمد على العلوم الحديثة في الإدارة والاقتصاد والقانون، وكذلك على القيم الإنسانية المعاصرة مثل الحرية والمساواة وحقوق الإنسان، ومسؤولية الدعاة ورجال الدين تتمثل في دفع حركة التنمية، والتقدم في واقع المجتمع من خلال تحرير الخطاب الديني من التناقضات والاضطرابات، التي ابتلي به في العصر الحديث، من خلال "أنسنة" الخطاب الديني، فالإسلام ينظر إلى المعنى للحياة، وهو صالح لكل زمان ومكان.