تناول المقال السابق لكاتب هذه السطور أزمة الغذاء العالميّة التي تلوح في الأفق ودور سياستنا الخارجية للتعامل معها باعتبار أن التعامل مع أزمة الغذاء لم يعد مجرد ملف يختص بالمحافظة على إمدادات الغذاء بقدر ما باتت المسألة ملفاً أمنيا بالمعنى الواسع للأمن الوطني وكذلك ملفاً ضمن سياستنا الخارجية حيث تحول الغذاء إلى إحدى ركائز اللعبة السياسية بين الدول.

أزمة الغذاء التي انفجرت في عام 2008 والتي تلوح علامات في الأفق على قرب انفجار واحدة مشابهة لها في المستقبل القريب، ليست نتاج عوامل العرض والطلب العادية والبسيطة أو معدلات الإنتاج فقط، فهذه الأزمة في عمقها هي نتاج السياسات العالمية التي يتم بموجبها التعامل مع قضية الغذاء على الساحة الدولية، وهو الأمر الذي يستدعي إعادة النظر في الهيكلة الدولية فيما يخصّ مسألة الغذاء، تماماً كما يتمّ التعامل مع الهياكل العالميّة الأخرى المتعلّقة بالأمن والسلام والحوكمة العالمية وغيرها من القضايا.

إنّ المملكة كدولة لها ثقل عالمي وكعضو في مجموعة العشرين يتوجب عليها أن تؤسّس رؤيةً واضحة تجاه هذه القضية الهامة بالإضافة إلى لعب دور على الساحة العالمية يتوافق مع موقف المملكة في إنشاء نظام عالمي جديد قائم على العدالة والمساواة، هذا بالإضافة إلى تحقيق المصلحة العامّة في هذه القضية حيث إن المملكة والدول العربية لها ضلع رئيس في هذه المسألة كون المنطقة العربية إحدى أكثر المناطق عرضة للانكشاف فيما يخصّ الأمن الغذائي في ظلّ قيام الدول العربية باستيراد 50% من غذائها بحسب بعض التحليلات.

إن موجة ارتفاع أسعار الغذاء الأخيرة بعد قرار حظر تصدير القمح الروسي ليست سوى بدايات الأزمة وهي أزمة مؤهلة للتفاقم مع تزايد المشكلات التي يعاني منها عدد من الدول الزراعية المصدرة، وليس أدل على جدية الأزمة من دعوة الأمم المتحدة لعقد اجتماع على مستوى صانعي القرار لمناقشتها في روما منتصف الشهر الجاري، إن إيجاد حلول على المدى القصير لأزمة الغذاء ليس هو التحدي الأكبر، فهذه الحلول ستظل بمثابة المخدِّر الذي ينزع الإحساس بالألم ولا يعالج أسباب المرض ذاتها.

إن أسباب المرض الحقيقية ناتجة عن خلل هيكلي بحاجة لإصلاح (راجع مقالة سعود كابلي "أزمة الغذاء العالمية – الأسباب والحلول والدور المطلوب من السعودية بتاريخ 8/6/2008 صحيفة الوطن عدد 2809)، أحد أبرز أسباب هذا الخلل هو عدم العدالة في النظام العالمي والقائم على مبادئ التجارة الحرّة بين الدول، فموازين القوة على الساحة الدولية سببت فساداً في عمل هذا النظام، وفي حين تقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي موقف أبرز الداعمين لحرية التجارة العالمية تؤسس سياساتهما لخلل حقيقي فيما يخص سوق الغذاء العالمي، وذلك من خلال الدعم الكبير الذي يقدمانه لمزارعهما (حوالي 300 مليار دولار سنوياً) في انتهاك واضح للأسس التي قامت عليها منظمة التجارة العالمية.

إنّ كلا منهما يضع شروطاً على الاستيراد ويقوم في ذات الوقت بتصدير الغذاء إلى الدول الفقيرة بأسعار زهيدة مصطنعة (artificial low prices) مطالبين الدول النامية بتقبل هذا الوضع وهو ما تسبب في ضرر جسيم وحقيقي للقطاع الزراعي في هذه الدول، فكيف يعقل أن تكون العديد من الدول الأفريقية على سبيل المثال وهي دول غنية بمصادر المياه والأراضي الصالحة للزراعة عاجزة عن سد احتياجاتها الداخلية من الغذاء؟ إن هناك خللا منهجيا أحد أهم أسبابه هو السياسات العالمية التي تتبعها الدول الغنية الزراعية والتي أدّت لقتل القطاع الزراعي في الدول النامية وقتل قدرات تلك الدول على إنتاج الغذاء وعلى المنافسة في الساحة العالمية وحتى الداخلية لديها.

إن العالم بحاجة إلى زيادة معدلات إنتاجه من الغذاء بحوالي 50% بحلول عام 2050 عندما يصل عدد سكان العالم إلى 9 مليارات (من 6.5 اليوم)، ومواجهة هذا التحدي تتطلب قبل أي شيء إنهاء التوجهات الاحتكارية لسوق إنتاج الغذاء العالمي سواء تلك التي تتبعها الدول أو الشركات الزراعية العالمية التي تسيطر على السوق وتقتل قدرات صغار المزارعين على المنافسة في السوق العالمي وهم يمثلون السواد الأعظم في الدول النامية.

إن المملكة يجب أن تضطلع بدور رئيس مع الدول الصاعدة في معالجة الأسباب الحقيقية خلف هذه الأزمة وذلك من خلال الدفع بإصلاح السياسات التجارية العالمية نحو تطبيق عادل وفعال لأنظمة منظمة التجارة العالمية، فاستمرار الدعم الزراعي في الدول الغربية مع تحرير التجارة لم يعد أمراً مقبولاً والمملكة أكثر من غيرها معرضة لضرر كبير من أي أزمة غذاء نتيجة انكشافنا لها، المملكة لها دور ريادي عالمي وهو ما يتمثل بدورها في سوق النفط العالمي، وكذلك فما يخصّ منطقة الشرق الأوسط وقضايا السلام والإرهاب والحوار بين الأديان والحضارات، وآن الأوان أن يصبح لها رؤية وتوجه عالمي ودور ريادي واضح على الساحة الدولية فيما يخص مسألة إصلاح النظام العالمي سواء منظمة الأمم المتحدة أو المنظومات الأخرى كمنظمة التجارة العالمية.