قد يتعجب البعض من إمكانية جمع شخص واحد لمبدأين فكريين متضادين في آن واحد! وهو إن كان مستحيل الوجود في العالم المتقدم، إلا أن هذا ما يحدث هذه الأيام ـ للأسف ـ عند طائفة من مدعي "الليبرالية"، الذين يصدحون في كل منبر بمبادئ الليبرالية ليل نهار؛ إلا أن ممارستهم الفعلية تكاد تكون أقرب إلى أفكار وتطبيقات "داعش" الإرهابية!.
وبينما لا يمكن لأحد عاقل أن يقبل تصرفات "داعش" على الأرض، سواء من قتل أو تهجير، أو فرض أحكام قاسية وقرارات مجحفة وغير متوافقة مع العصر؛ إلا أن "داعش" على الأقل متوافقة مع مبادئها العقدية الخاطئة، وهي تطبقها بالقلم و"المسطرة" على الجميع دون استثناء، كما يحلو للبعض وصف ذلك.
بينما الليبرالية من جهة أخرى هي مفهوم وفلسفة، تعتمد على قيمتي "الحرية" و"المساوة"، وعلى الإيمان بالنزعة الفردية لكل إنسان حر، التي تزدهر في جو من حرية الفكر والتسامح المجتمعي، والأهم من ذلك احترام كرامة الإنسان، وحقّه المشروع في الحياة، وحرية الاعتقاد والدين، إضافة إلى مساواة الجميع أمام القانون، مما يجعل الديموقراطية إحدى وسائل تطبيق الليبرالية الاجتماعية بمفهومها الأكبر، لكن الشيء الجميل في الليبرالية، هو أنها لا تقتصر على حرية الأغلبية في ممارسة حريتها، بل تؤكد على الحرية الفردية، وبالذات الأقليات المختلفة دينيا أو طائفيا أو عرقيا داخل المجتمعات الكبيرة، على العكس تماما من فكر وممارسات "داعش" وشقيقاتها، وكل هذا وأكثر يفترض أن يؤمن به ويطبقه الليبراليون أولا قبل عموم المجتمع، وأن يترافق ذلك مع ممارسة قبول الأفكار المضادة بصدر رحب، وأن يبدؤوا بأنفسهم أولا، لا أن يتحول أصدقاؤنا الليبراليون إلى دعاة ليبرالية "حسب التفصيل والمقاس"، فهم يريدون حرية مفتوحة الأبواب لهم في مجال ما، ومغلقة على الآخرين في مجال آخر، والمعيار الوحيد هنا هو ألا تتعارض مع مصالحهم.
ولنأخذ معرض الرياض الدولي للكتاب، ففي الدورات الماضية كان لليبراليين قصب السبق، وجولات وصولات في مواجهة قوى التطرف والجهل، التي كانت تدعو إلى منع كتاب هنا ومصادرة كتاب هناك، لكن الموقف تبدل بشكل درامتيكي في الدورة الماضية، إذ تفرغت طائفة من الليبراليين للمطالبة بحجب كتب الإسلام السياسي، وما يدور في فلكها، بينما أمسى الحركيون الإسلاميون هم المدافع الجديد عن حرية الكلمة، وضرورة وجود كتب الأطياف كافة تحت سقف المعرض. وهنا مفارقة عجيبة تستحق التوقف والتأمل، فلقد كان من المفترض أن يستمر الليبراليون على موقفهم المبدئي من قبول جميع الأفكار، وجعل المتلقي هو الحكم النهائي وسط سوق الأفكار؛ لأنه حر في قراره واهتمامه، كما تقوم على ذلك المبادئ الأساسية للحرية الفردية، وليست ليبرالية أن تتبع ما أريد وما يخدم مصالحي فقط، وأن أحجر وأمنع عنك ما يخالفها بكل حزم وشدة، ولكن الأكثر إثارة من ذلك هو الانتهازية الجديدة والروح المكارثية، التي يمكن ملاحظتها من خلال ما يحدث من تحالف لا يمكن فهمه بين بضعة كتاب ليبراليين وتيار إسلامي محدد، بهدف القضاء على منافسة تيار إسلامي حركي آخر، وصار من الطبيعي أن تجد الفتاوى والآيات القرآنية وشواهد السيرة النبوية مضمّنة في مقالات الهجوم والإقصاء، بل وصل الأمر إلى الاستشهاد بفتاوى محددة لمشايخ كانوا يرونهم هم قمة التخلف والجمود، ولكنه الهوى وتوافق المصالح الموقت، جعلهم يستعينون بتلكم الفتاوى الإقصائية دون حياء أو خجل، مع استمرار معارضتهم لفتاوى أخرى لنفس المشايخ! ثم ثالثة الأثافي وهي انتقائية الاستشهاد بأفعال السلف الصالح أو أحداث من التاريخ الإسلامي، دون أن يعلم أن تلك الاستشهادات تضع الكاتب أو المستشهد في مواقف محرجة؛ لأن استحضار الماضي لا يمكن أن يتم بطريقة انتقائية غير منهجية، الأمر الذي يضعف حجتك ويجعلك في نهاية الأمر متماهيا مع فكر "داعش" القاعدي، الذي أثبتت ممارساتهم أنهم لا يستطيعون فهم سياق أحداث السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، وربطها بالثابت والمتحول في شريعتنا الإسلامية السمحة.
إن إقصاء الآخر وتجريحه، وتدمير شخصيته لهو سلوك "داعشي" بامتياز، وهو ما أصاب بضعة ليبراليين مؤخرا، فهم في سبيل الوصول إلى ليبرالية المجتمع يعتقدون أن أي وسيلة مهما كانت متطرفة يمكن تبريرها، فقط للوصول إلى الهدف الأخير، وفات عليهم أن تلكم الممارسات "الداعشية" لهي أولى نواقض الليبرالية الحقيقية، فهي وإن كانت اعتقادا في القلب وفكرا في العقل، إلا أن ممارستها بشكل واقعي على أرض المجتمع هو التحدي الصعب، الذي أثبت الكثيرون فشلهم في اجتيازه من أول اختبار!.
من المحزن جدا أن يفقد الإنسان بوصلته الفكرية، فقط ليحقق مصالح موقتة على حساب مبادئه العليا، دون اعتبار لتاريخه وأفكاره التي قضى سنوات يبشر بها، وبالطبع فهو قبل أن يفقد جمهوره سوف يفقد احترامه لنفسه، لكن الأخطر من ذلك أنه باعتماد أسلوب "داعش" في مواجهة الخصوم واستعداء السلطة عليهم، سوف يكون هو يوما ما أول من يكتوي بنارها، فقط متى ما حصل أي تغيير بسيط أو تبدل طارئ.