"الأمور باتت واضحة، وأبسط كثيراً من اللغو والتقعر".. بهذه العبارة تصديت لأزمات كثيرة في حياتي، وبها أيضاً أدخل في الموضوع مباشرة، فهناك جيل من قدامى مستخدمي الشبكة "Net Citizens" الذين تعاملوا مع الإنترنت منذ أيام "منتديات الحوار" التي كانت أولى ثمار تقنية التواصل الاجتماعي الإلكتروني، ثم تراجعت لصالح غرف الدردشة في "البال توك" وأخرى وفرتها شبكات شهيرة منها Yahoo وHotmail بالتزامن مع انتعاش "المدونات" التي تقلصت بظهور "Facebook" وعبره انطلقت ما تسمى "ثورات الربيع العربي"، وانطلق "تويتر" الذي بدا كأنه "عصا موسى" التي التهمت كل الثعابين، بعدما صار الأوسع انتشاراً، والأكثر تعبيراً عن اتجاهات الرأي العام في المجتمعات.

وبدأت خبرتي بوسائل التواصل الاجتماعي Social Media منذ التسعينات، وما زالت مستمرة، وكانت تجربة تشبه الحب، فالمرء لا يقرر هذا الشعور لأسباب منطقية، بل يجد نفسه فجأة متورطاً فيه، لتأتي مرحلة التبرير لاحقاً، فيقول إن محبوبته "مدهشة و"بنت ناس"، لكن الحقيقة أنه أحبها، حتى لو كانت لا تجيد إعداد فنجان قهوة، والعكس صحيح بالنسبة للنساء أيضًا، فقد غير إنترنت مفهوم الحب كغيره من المفاهيم.

القصة بدأت مع "منتديات الحوار" وبررت الأمر لنفسي بمصطلحات "نخبوية سخيفة" من عينة أنها إرهاصات مبكرة لصحافة المستقبل التفاعلية، وأن الناس ملت قراءة المقالات التي يُدبجها الُكّتاب والصحفيون دونما تواصل حقيقي مع القارئ، خلافاً للحاصل بمنتديات الحوار، التي دشنت ظاهرة "حروب البذاءات"، وبالأحرى كشفت عن مجتمعات مأزومة تُبغض الحوار، وتفضل مواجهة خصومها الفكريين والسياسيين بالبذاءات التي تتراوح بين الاستخدام العفوي حينًا، والحملات المنظمة للاغتيال المعنوي أحيانًا.

وبعد جراح موجعة قرر "صاحبكم" التوقف عن هذه المهاترات، وتجاوز الصغائر والتماس العذر للصغار، لكنه اكتشف خطورة الظاهرة وحذر منها، فالاغتيال لا يقتصر على الشخصيات، بل يمتد للقيم الإنسانية الرفيعة والأعراف الاجتماعية الراسخة، وصولا للمؤسسات والدول، عبر مخططات منهجية.

وحين واجه "صاحبكم" نفسه بسؤال عن أسباب تفشي "حروب البذاءات"، ولماذا تدعمها فضائيات بعينها، وترعاها أجهزة استخبارات بتشكيل "لجان إلكترونية" تطلق "وسماً بذيئًا" كما حدث مثلا للمرشح الرئاسي المصري عبدالفتاح السيسي، وتهيئة المناخ ليتصاعد الأمر بشكل حماسي يتلقفه شباب غاضب مأزوم، لتنفيذ أهداف أجهزة استخبارات دولية وإقليمية، تستهدف شيوع الفوضى والاحتقان بتفجير الصراعات الدينية والطائفية، وتشويه الشخصيات ودفع الرأي العام في الاتجاه الذي يخدم مصالحها.

وتكمن خطورة حروب الإنترنت في أنها تمثل "فضاءً هائل الاتساع لا يخضع لقانون"، والأهم من هذا أنها مصممة بحيث لا يمكن للدول التحكم بطريقة عملها، أو وضع ضوابط فالتصميم الشبكي للإنترنت أفشل جهود محاولات التحكم فيها، وتجدر الإشارة أن "حروب الجيل الرابع التي يلعب الإنترنت دورا محوريا فيها لن تلغي الحروب التقليدية فالأساس الاستراتيجي للحروب واحد، لم يتغير رغم تعاقب العصور، إذ تعتمد على أربعة عناصر أساسية هي: تحديد الاستراتيجيات، وإقرار التكتيكات، واستغلال التقدم التقني، ثم التخطيط المدروس، وسياسياً تستهدف كسر إرادة الخصم، وشيطنة فكرة الوطن، ووصم رموزه بأقبح الاتهامات.

لا يجد اليساريون الفوضويون كحركة (الاشتراكيون الثوريون) غضاضة، لأنهم يرفضون الدولة ومنظومة الأخلاق والأعراف السائدة أساساً، لكن اللافت تورط أنصار جماعات الإسلام السياسي باستخدام البذاءات، مما يُثير تساؤلات حول الالتزام الديني وانعدام مردوده الأخلاقي، فكيف تكتب مثلا فتاة متدينة تزعم الدفاع عن الإسلام عبارات فاحشة، يتعفف المرء عن ذكرها لاعتبارات اللياقة؟!

ورغم أن البذاءات والشائعات وجدت قبل الإنترنت، لكن مواقع التواصل الاجتماعي هيأت لها البيئة المناسبة لانتشارها لأسباب شتى، منها: الشبكات المعقدة من العلاقات الشخصية التي تعزز تفشي عدوى البذاءات للاستخدام السياسي لمواقع الشبكات الاجتماعية، وفي ظل الأزمات المزمنة، لتعزيز القلق في عالم أصبحت فيه السرعة لنقل الأخبار ونفيها في آنٍ واحد، مما لا يدع فرصة للتأكد من صحتها وجديتها.

أما أخطر تداعيات "حروب البذاءات" فهو إضعاف "المناعة الوطنية" للدول لأن التواصل الاجتماعي يستلهم آليات عابرة للحدود، ليضع الدول في حالة صراع داخلي، وهذا أحد أخطر أسلحة التنظيم الدولي للإخوان، باستغلال شرائح مأزومة لضرب الدولة من داخلها، ويتعاظم الخطر حينما تتجاوز مهارات جيل "الشباب الغاضب" في استخدام التواصل الإلكتروني مؤسسات الدولة التقليدية، وبدلاً من مساهمة هؤلاء ببناء أوطانهم، فضلوا دور "حفاري القبور"، بينما يجلس في "مكانٍ ما" من يراقب كيف تمضي "حروب البذاءات" نحو ترسيخ الاستقطاب، وإشاعة ثقافة الكراهية، وتحبيذ العنف وتبريره.