ضمن اهتمامي بأعمال المخرج البولندي المهم رومان بولانسكي "ROMAN POLANSKI" سأتحدث هذا الأسبوع عن أحد أعماله المهمة وهو فيلم "DEATH AND THE MEDIAN"، هذا الفيلم أطلق سنة 1994 ولا يزال يشع بقيمة فنية عالية. الفيلم يتجسد في ثلاث شخصيات فقط، وهو مأخوذ من مسرحية للأديب الأرجنتيني التشيلي Ariel Dorfman، الذي هرب من حكم الطاغية بونشيه وحصل على الجنسية الأميركية سنة 2004. الفيلم يقوم على حوارية عالية وعلى تقلب مرعب في المواقف والعلاقات بين الشخصيات الثلاث. لدينا زوج وزوجته وزائر غريب. بين هؤلاء تدور حكاية طويلة هي حكاية الضحية والقانون والمجرم. لم يرد في الفيلم أية تسمية لأماكن محددة أو لأسماء بعينها وكأن المقصود هو التعبير عن أن القضية ليست قضية تشيلية فقط بقدر ما هي حكاية إنسانية حدثت وتحدث في كثير من دول العالم. الفيلم هو محاولة لكشف عمق الشخصيات الثلاث أو فضحها. ماذا تشعر به الضحية؟ وماذا تعني لها المقاضاة والمحاكمة؟ وكيف هو الألم الذي يسببه لها القانون حين يضعها في صف واحد مع المجرم ويطلب منها ما لا تطيقه من إثباتات وأدلة تعجز هي - باعتبارها ضحية ضعيفة أمام سلطة غاشمة - أن تحصل عليها. من جهته يبدو القانون في ورطة، فهو من جهة مشدود لمعايير العدالة التي تتطلب وضع المجرم والضحية في صف واحد حتى يصدر الحكم، ومن جهة ثانية يبدو أن القانون ذاته يشارك من خلال فراغاته الواضحة، في الجريمة بدليل أن كثيرا من المجرمين يستطيعون من خلال استغلال ثغرات القانون الخروج من المسؤولية ويحملون بكل صفاقة شعار البراءة. من جهته يبدو المجرم غارقا في ذاته ولم يستطع بعد رؤية الضحية، لا يزال المجرم يفكر في محيطه الخاص ولا يرى في المعادلة طرفا آخر حقيقيا ولذا لا يحضر في اهتمامه كونه مجرما بقدر ما يحضر شعوره بالقوة وذكريات السلطة التي تمتع بها ومدى مهارته وإبداعه في ممارسة استبداد السلطة على الناس.
لاحظ هنا أن الحديث ليس عن جريمة بالمعنى الفردي بقدر ما هو إجرام السلطة، أي الجريمة التي تتم باسم مؤسسات الدولة وهي الجريمة التي لا توازيها أي جريمة أخرى. هنا يحضر بولانسكي باعتباره نمطا خاصا من المخرجين، تصل عينه إلى قضايا مهمة من هذا النوع وربما كانت تجربته كبولندي تعرضت بلاده لكثير من ويلات الاستبداد، هي المحرك لمثل هذا العمل لأنني أعتقد أن مثل هذه الأعمال تتطلب من أجل إنجازها شعورا حقيقيا بالقضية لا أعتقد أن الاحتراف الفني كفيل بتحقيقه. أعني أن القرب من حقيقة الحدث، كما هو الحال مع الكاتب والمخرج، هو الذي أعطى تلك الدفعات الهائلة من الحضور الحقيقي للشخصيات ضمن شبكة الأحداث عبر شخصيات ثلاث عبرت عن تاريخ طويل من حكاية الإنسان مع الظلم والاستبداد.
لدينا هنا مخرج بولندي عاصر كثيرا من التحولات السياسية والاجتماعية في بلده لدرجة أن فقد الناس الثقة بما يطرح على أنه قانوني وشرعي، أو بعبارة أخرى لدرجة أن يفقد الناس الثقة بالفصل الجوهري بين القانون والإجرام. في المقابل لدينا كاتب تشيلي عانى تجربة مماثلة في بلده حين سيطر عليها دكتاتور غاشم. هذه التجارب تدفع بقوة للتفكير في هذا السؤال الفكري الفني في آن واحد: هل يعكس القانون العدالة؟ ليس بالضرورة. هذه هي الإجابة الغالبة في المبحث الفلسفي على الأقل. لكن في الوقت ذاته - وبحسب المبحث الفلسفي أيضا - فإن القانون إذا فقد إيمان الناس به على أنه عادل إلى درجة ما فإن قيمة هذا القانون تتلاشى ويتحول إلى مجرد عصا في يد الأقوى لا أكثر. في فلسفة القانون نعرف أن القوانين توضع لمواكبة حالات وظروف اقتصادية واجتماعية معينة كما نعرف أيضا أن هذه الظروف تتحرك بسرعة أكبر من سرعة حركة تعديل القوانين والتشريعات. في الفجوة بين هاتين الحركتين تنشأ القوانين غير العادلة أي القوانين التي لا تعالج ظروف الواقع بشكل يراه الناس عدلا. هذه حالة طبيعية إلى حد ما ربما تشير إلى مشكلة التفاعل بين القوانين والواقع لكن ما يطرحه الفيلم هو مشكل أعمق باعتبار أنه يقضي على أي تبرير معقول للانفصال بين العدالة والقانون. هذه الإشكالية تدفع الناس لمعضلة أخلاقية كبرى وهي خلو المكان من أي معيار للفصل بين الجريمة والبراءة. الخيار المجنون أمامهم أن يقبلوا بهذه الفكرة: الفعل ذاته قد يكون جريمة وقد يكون سلوكا قانونيا فقط لأسباب متعلقة بميزان القوّة لا أكثر. الخيار المرعب هنا هو أن الجريمة هي ما يحدده الأقوى أنه جريمة ومن المحتمل جدا أن يجعل غدا الجريمة عملا قانونيا لا لتغير الظروف العامة بل لتغير حسابات القوي الخاصة والخاصة جدا. الفيلم يحوم بنا في إشكالات من هذا النوع إشكالات بهذا العمق في حكاية لا يظهر فيها سوى ثلاثة أشخاص غارقين في سؤال الحق والعدل.