لم تمنحه الحياة ابتسامة أم تشرع له ذراعيها لتحضنه أو أب يدربه على أن يخطو الخطوة الأولى، لم تمنحه الحياة أكثر من دار حضانة ترعاه وسيدة أعمال تكفله من أحد الدور الاجتماعية، وسؤال عاش طويلاً لم يستطع الإجابة عنه: من أي قبيلة أنت يا شاكر؟
ألحقته السيدة التي كفلته بمدرسة خاصة ينتسب لها أبناء الوزراء والأمراء وكبار رجال الأعمال الذين لا يشعرون بالآلام الكبيرة التي يحملها بقلبه الصغير، يشاركهم مضطراً حديثهم بصمته وهم يتحاورون عن أفخم السيارات التي يقتنونها ومصايف العالم التي يرتادونها بينما هو أقصى أمانيه أن يستطيع إجابة أسئلة تكررت عليه كثيراً من أنت؟ من أي قبيلة؟ من هو أبوك؟
افتقد لكل شيء: الأسرة، الأم، الأب، الخال، العم، الجد، الجدة، الإخوة، الأخوات، أبناء العم، أبناء العمة، وكبر وهو وحيدٌ.. ولد وهو يفتقد لكل شيء.
تقدم "شاكر علي" للزواج من 25 فتاة، جميعهن رفضن لأنه "لقيط".
واجه شاكر رفض المجتمع له بمشاعر سلبية انتشرت في روحه حتى أسودت حقداً على الجميع، ودون تردد التحق بالبعثة الدراسية لأميركا للرحيل عن مجتمع لا يتقبله، رغم كل محاولاته لأن يكون فرداً منهم.
بعد التحاق شاكر بإحدى الجامعات الأميركية قرر أن يغيّر من نظرته للمجتمع الذي لم يبدِ أي استعداد لتقبله، مؤمناً بأنه وقت ما بادر من حوله بالحب الذي افتقده، فسيمنحونه ما يستحق من الحب يوماً ما.
رغم انشغاله بدراسته واجتهاده لأن يعود لوطنه بشهادة تصنع له مستقبلاً يحلم به، إلا أنه خصص من وقته كثيرا لمساعدة الطلاب السعوديين الجدد القادمين للدراسة بأميركا، بلور مساعداته الصغيرة فيما بعد لموقع إلكتروني تحت عنوان "سعوديون في أميركاً" يتعاون فيه وفريق عمله بالتطوع بالإجابة عن استفسارات الطلاب، ومساعدتهم، واستقبالهم بالمطار، وفتح حسابات بنكية لهم، ومنحهم كل ما يحتاجونه. بادل شاكر مجتمعه الذي رفضه منذ بدايته بالحب، ومنحهم فرصة ثمينة لأن يحبوه كما أحبهم، يرد على هاتفه على مدار الساعة دون ملل، مجيباً عن استفسارات الطلاب ومساعدتهم، معداً أن كل اتصال يصله يستفسر منه عن الدراسة إنما هو سؤال غير مباشر بصيغة "كيف حالك يا شاكر؟" الصيغة التي يفتقدها شاكر منذ رأت عيناه النور، لكنه منحها لكل السعوديين بأميركا، وكوّن عائلته بنفسه ليصبح عدد أفراد أسرته رقماً لم تصل إليه أسرة من قبل، بل أجزم أن شاكر كوّن أكبر أسرة في التاريخ.
لم تتسنَ لشاكر علي فرصة أن يولد بحضن عائلة تعتني به، فمنح نفسه عائلة كبيرة يعتني هو بها، وحينما بحث عن الفرصة ولم يجدها لم يعلن الهزيمة بل بادر بصناعتها وتسلق قمتها ورفع راية الانتصار.
الحياة كريمة بالفرص ولكننا لا نلتفت لفرصها، ولا نمنحها ما تستحق من رعاية واهتمام حتى تمضي خائبة دون مبادرة منا، وغير عابئين لنصيحة الشاعر محمود سامي البارودي التي تقول أبياتها:
بـادرِ الـفُرصةَ، واحذر فَوتها
فَـبُلُوغُ الـعزِّ فـي نَيلِ الفُرصْ
واغـتنم عُـمْركَ إبـانَ الـصِبا
فـهو إن زادَ مـع الشيبِ نَقَصْ
إنـمـا الـدنيا خـيالٌ عـارضٌ
قـلَّما يـبقى، وأخـبارٌ تُـقصْ
تـارةً تَـدْجو، وطـوراً تنجلي
عـادةُ الـظِلِّ سـجا، ثمَّ قَلَصْ
فـابتدر مـسعاك، واعلم أنَّ من
بـادرَ الـصيدَ مـع الفجرِ قنصْ
لـن يـنال الـمرءُ بالعجز المنى
إنـما الـفوزُ لِـمن هـمَّ فنصْ
الحياة بحد ذاتها فرصة ثمينة، تكمن قيمتها الكبيرة في الأشياء البسيطة، كأن نمنح من حولنا الابتسامة التي بالرغم من بساطتها إلا أنها فرصة ثمينة لأن ندخل السعادة على القلوب، أن نفعل المعروف ولو بشيء بسيط فرصة ثمينة لأن تكون حياتنا كما ينبغي لها من سعادة ومن تقدير الذات. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق" رواه مسلم.
الفرص ليست ببعيدة عنا.. إنها بجوارنا تماماً، لكننا لا نجيد اقتناصها، ومن يتصفح سير وقصص الناجحين يجد أغلبهم تسلّقوا المجد بمجرد اقتناص فرصة مناسبة. الفرص المناسبة ليست لها معايير أو قوانين أو معادلة ثابتة، فهي تختلف من شخص إلى شخص آخر، وتكاد تكون كالبصمة، لا تتشابه، وقد لا نجدها، وحينها يجب علينا أن نصنعها.
الآلام التي تولد معنا رُغماً عنا أو التي تنمو مع مضي الأيام شوكة بقلوبنا تنتظرنا معها فرصٌ، ولكننا نحن وحدنا من نستطيع أن نكتشفها لتكون ثمينة بقدر ما تشاء قلوبنا المتعطشة للحب.
تجربة شاكر تجبرني على أن أعيد النظر في المقولات التي نتداولها فيما بيننا، وجعلت الكثيرين منا يؤمنون بها ويسلّمون بأنها صحيحة مثل مقولة "فاقد الشيء لا يعطيه"، وها هو شاكر رغم أنه ولد مفتقداً لحنان الأم ولرحمة الأب وحتى قسوته ومن روح الأسرة، إلا أنه أعطى الحب لكل من حوله، وكوّن أسرة "سعوديون في أميركا"، بل ويعكف حالياً على مشروع تطوعي آخر يخدم كل مبتعثي السعودية في كل أرجاء العالم، مثبتاً بأن "فاقد الشيء يعطيه".