عندما تستعرض ما كتبه الصحافيون الغربيون عن مشاهداتهم التي رصدوها عن المنطقة التاريخية بجدة، -منذ أكثر من 150 عاماً- والتي كانت حينها بمثابة بوابة "التواصل الحضاري" بين هذه الضاحية الصغيرة في قلب جدة، يستوقفك الآن عودة تلك المرويات إلى مسارها من جديد ومن غير سابق موعد، عبر أكاديمين أميركيين يدَّرسان في كلية العلوم الإنسانية والاتصالات بجامعة فرانكلن بولاية أوهايو.
"ديانا بالمر" وزميلها الدكتور جويل جاردنر، توجها لمنطقة جدة التاريخية بالمصادفة، حيث لم تكن زيارة المكان مدرجة في "أجندة برامجهما" التي كانت عملية محضة. فكتبت "بالمر" مقالاً من 560 كلمة بعنوان "معلم البيتزا في جدة" فور عودتها لموطنها بصحيفة "فرانكلين الجامعية"، حول زيارتها لـ"مقعد جدة وأيامنا الحلوة" في "تاريخية جدة" المعني بالحفاظ على ما تبقى من هوية المنطقة، وقالت إن الزيارة أيقظت فيها حنينها الأول تجاه معلم "البيتزا" الأميركي المكافح الذي شكل مصدر إلهام استمر طيلة حياتها، ليصبح القائمون على "مقعد جدة" مصدر إلهام آخر يوازي في قوته ما تركه صاحب البيتزا من تأثير في شخصيتها.
زيارة الأميركية بالمرلم تمر دون حديث مسهب مع اثنين من مؤسسي المقعد وهما نائب مدير عام شركة الزامل للصناعات المعدنية الثقيلة منصور الزامل والموظف في وزارة البترول والثروة المعدنية طلال خوتاني، اللذين أخذا مع شركائهما الدكتور محمود الصعيدي ومازن السقاف ومحمد سنوسي بكل شغف مهمة حفظ تراث المنطقة التاريخية، وقالت لـ"الوطن": "المكان كان بادرة للحفاظ على الكينونة "التراثية والثقافية" للمنطقة، حيث يكافح خمسة أشخاص عاشقون لروح المنطقة منذ صغرهم للحفاظ على ما تبقى من هوية المكان والزمان، تحت اسم المركز الوطني للأبحاث والتوثيق". "بالمر" أول ما يكتب عن "جدة القديمة" في صحيفة جامعية أميركية متخصصة، ضمن الوثائقيات التي تحدثت عن مدينة الـ1400 عام.
وكما اتشحت "بالمر" بلبس العباءة المحلية، تلبست أيضاَ "آلام" تاريخية جدة، ويبدو ذلك من خلال نظراتها وهي تنظر من مطل المقعد في الطابق الثاني، الذي يشرف على بيت نصيف التاريخي بحارة اليمن، والمطل على القادمين من جهة سوق الندى متجهين فيه إلى شارع قابل الشهير، وكأنها تسترجع "ذاكرة نسيان" بعدم الاهتمام بهذه المنطقة والتي أخذت مساحة مهمة في تفاصيل مقالها بالصحيفة.
وارتكزت مقالتها الجامعية على تفاصيل دقيقة في حياة الجداويين القديمة، من خلال تصوير بانورامي لمفردات (المقعد) ضمن المتحف المصغر، مثل أطقم الشاي والكتب والمصنوعات التقليدية محلية الصنع، والحلويات التقليدية، ومحاكاة أسلوب الضيافة على أرض الواقع.
تتحسس بالمر ورفيقها جاردنر كل "الإنتيكات" التي كان يستعملها أهالي جدة، وكانت تصر على التقاط صورة عند كل إنتيكة، بل كانت تقف كثيراً أمام الصور المعلقة على الجدران وهي تشاهد معالم التمدد الطبوجرافي لجدة ما قبل هدم سور الحارات الرئيسة الأربع في 1947.
على رغم أن الكثير من الأوروبيين والأميركيين والآسيويين والروس زاروا المكان، سواء كانوا دبلوماسيين أو سائحين، أو وفودا جامعية، إلا أن "بالمر الأميركية" كانت مختلفة كلياً عن مسار السابقين، وتخطت بزيارتها المكان قالب "التصوير" و"الإعجاب" و"السياحة" إلى خطوة تشبه ما قامت به الصحف الإنجليزية كـ"لندن نيوز" في 1858، والإيطالية "لابيتي جورنال" في 1895، في الكتابة عن جدة.