فجأة ودون سابق إنذار، قطع وزير الخارجية الأميركي جون كيري زيارته إلى إسرائيل في الثامن من نوفمبر الماضي، وغادر على جناح السرعة إلى جنيف للانضمام إلى المحادثات التي كانت تدور آنذاك بين مجموعة (5+1) مع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف حول ملف طهران النووي. ومع أن الوزير الأميركي تلقى – دون شك – تقريراً عن تقدم كبير في المفاوضات يفتح الطريق أمام إمكانية توقيع اتفاق بين الجانبين، إلا أن تلك التوقعات ذهبت أدراج الرياح، حيث انفض الاجتماع دون جديد، مع التأمين على مواصلة عقده في القريب العاجل. وهو ما تحقق في الثامن عشر من نفس الشهر، حيث التأم الاجتماع من جديد، وأحيطت الاجتماعات كالعادة بقدر كبير من السرية، حيث لم ترشح معلومات عنها لوسائل الإعلام التي حرم ممثلوها من دخول محيط الاجتماعات، مع الاكتفاء بتقرير يومي لا يسمن ولا يغني من جوع، إلا أن اليوم السادس من الاجتماعات شهد حركة دائبة وتحركات غير عادية، توجت في الرابع والعشرين من نوفمبر بتوقيع الاتفاق الذي اختلفت الآراء حوله بين مؤيد ومعارض وآخر اختار الوقوف في جانب الحذر والريبة.

ومن المفارقات اللافتة عقب توقيع الاتفاق، أن الجانب الأميركي الذي كان حريصاً طيلة السنوات الماضية على توقيع مثل هذا الاتفاق، بدا متشككاً في التزام طهران بما تم التوقيع عليه، ولم يخف مجلس الشيوخ معارضته للاتفاق، حيث اتهم الرئيس باراك أوباما بالتساهل و"الليونة"، وجاهر بعض النواب الجمهوريين بمعارضتهم له، وتوعدوا أوباما بالمساءلة. ومضى بعض النواب أكثر من ذلك عندما طالبوا الكونجرس بأن يتبنى قراراً بتشديد العقوبات الحالية المفروضة على إيران، على ألا تدخل حيز التطبيق إلا في حالة إخلال طهران بالاتفاق. وقال السناتور الجمهوري مارك كيرك "سأواصل العمل مع زملائي لوضع تشريع يفرض عقوبات اقتصادية جديدة إذا أخل النظام الإيراني بهذا الاتفاق المرحلي، أو إذا لم يكن تفكيك البنية التحتية النووية لطهران جارياً في نهاية هذه الفترة". وقطع بالقول "العقوبات سيبدأ مفعولها تلقائياً إذا مارسوا الخداع، أو إذا لم يبدأ التفكيك بحلول 6 أشهر".. كذلك فإن إيران التي ظلت تناور وتراوغ لسنوات عديدة، وترفض توقيع مثل هذه التعهدات، بدت سعيدة بالاتفاق، واستقبل وزير خارجيتها لدى وصوله طهران استقبال الفاتحين. واختفت الأصوات المتشددة التي كانت ترفض التعاون مع المجتمع الدولي، وتصر على أن الحق في التقنية النووية يمثل "خطاً أحمر"، مما يرفع أكثر من علامة استفهام حول نوايا النظام الإيراني المستقبلية.

القوة الناعمة


بداية، يرى رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات السياسية والاستراتيجية بجدة الدكتور أنور عشقي أن الرئيس الأميركي باراك أوباما لجأ منذ توليه مقاليد الحكم في الولايات المتحدة إلى تحقيق أهدافه بواسطة نظرية القوة الناعمة، أي عن طريق العقوبات ودون اللجوء إلى قوة عسكرية. وقال في تصريحات إلى "الوطن" "بهذه النظرية، استطاع أوباما أن يصل إلى أهدافه دون قتال. أما سلفه الرئيس جورج دبليو بوش فقد استطاع أن يدمر العراق وأفغانستان، ومع هذا لم يتمكن من تحقيق أهدافه. فالرئيس أوباما فرض عقوبات اقتصادية على إيران حتى ضاقت وضاق الشعب بها"، ومع هذه العقوبات الاقتصادية فقد استهدف الإعلام الأميركي الشعب الإيراني، خاصة الشباب منهم، حيث وجهت بعض القنوات الفضائية بثها إلى إيران، وهي لا تعرض على شاشتها إلا أفلاماً تظهر الحياة الأميركية.

حرب ثقافية


وأضاف "تعلق الشباب الإيراني بهذه الحياة، فأصبحوا في شوارع طهران يلبسون الجينز، ويصبغون شعورهم، ويضعون السماعات ليستمعوا إلى الأغاني الأميركية، ولم يردعهم عن ذلك اللوحات التي علقت في شوارع طهران وباقي المدن، التي تقول: إن أميركا هي الشيطان الأكبر. ولم يصغوا إلى المدرسين الذين يشتمون الأميركيين.. لكل ذلك، وجد المرشد نفسه أنه إذا لم يدعم الاعتدال في الانتخابات فسوف تهب رياح الربيع الإيراني على النظام فتقتلعه من جذوره، لهذا دعم الرئيس حسن روحاني، وسمح له أن يذيب الجليد مع واشنطن، وأن يفتح باب المفاوضات النووية، ويسمح بدخول المفتشين، في مقابل تخفيف العقوبات".

اتفاق مبتور





وعن قيمة الاتفاق يقول "جاء الاتفاق الأخير موقتاً لمدة 6 أشهر، فهو يمثل للدول الست انتصاراً دفع ممثليها بعد التوقيع إلى المصافحة والعناق فرحاً وابتهاجاً، أما بالنسبة للدول العربية والخليجية فقد أيدت ذلك مع شيء من القلق وعدم الرضا، خشية من أن يكون هذا الاتفاق على حسابها. أما حالة عدم الرضا عن الاتفاق فتعود إلى أنه اتفاق مبتور لم يشمل باقي الأمور التي تمس المنطقة من أزمات فجرتها إيران في سورية ولبنان واليمن والبحرين. أما إسرائيل فقد اعتبرته اتفاقا سيئاً لن يؤدي إلى تفكيك المفاعلات النووية فاحتفظت لنفسها بحق الهجوم عليها إذا لم تلتزم إيران بما عاهدت عليه".

ويؤكد عشقي أنه ليس أمام طهران سوى الالتزام بما جاء في الاتفاق، مشيراً إلى أن طريق العودة قد أغلق أمامها، ويضيف "لم يعد أمام إيران خيار غير خيار الالتزام، فقد وجدت أن الأمر قد أصبح جدياً، وأن العالم ينظر إلى التصرفات الإيرانية بكل حزم، خصوصاً أن الرئيس الأميركي قال: "إذا لم تلتزم إيران فإنها سوف تتعرض للعزلة الكاملة".

مساومة إيرانية


أما الباحث في الشؤون السياسية الدكتور حسن نافعة، فيؤكد أن إيران نجحت باقتدار في إدارة الملف النووي، خاصة بعد صمودها أمام العقوبات، وقال في إفادة إلى "الوطن" "حينما شعر الغرب أن تلك العقوبات لم تردع طهران اضطر إلى الجلوس للاتفاق في هذا الملف، والخروج بأية مكاسب، ولا مانع من أن تربح إيران من وراء هذا الاتفاق، وهو ما تحقق بالفعل. وقال "لا يمكن وصف الاتفاق الأخير بأنه ناجح أو فاشل، لأنه لم يكن سوى مجرد اتفاق مبدئي، يسبق الاتفاق النهائي، ومن ثم فهناك فترة طويلة لاختبار المواقف لكلا الطرفين، فإذا مرت الفترة التمهيدية بنجاح فسيتم التوصل لاتفاق نهائي في هذا الملف، وإذا حدث ذلك بالفعل فسيكون بداية لتسليم الغرب بالدور الإيراني في المنطقة، بل ودعمه والاعتراف به". وأكد أن التوجس لدى دول الخليج من هذا التحرك منطقي وطبيعي للغاية، خاصة بعد المشكلات التي تسببت بها إيران في الفترة الماضية، ولكن يمكن القول إن لغة المصالح هي التي باتت تحرك الأمور حالياً، معتبراً أن التوصل لاتفاق إيراني ـ غربي قد يكون له آثار سلبية كبيرة على منطقة الخليج ومنطقة الشرق الأوسط بوجه عام.

فعالية العقوبات


وفي ذات السياق، يرى المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى روبرت ستالوف أن العقوبات التي فرضتها واشنطن على طهران خلال الفترة السابقة كان لها مفعول كبير في إرغام طهران على الإذعان لرغبات المجتمع الدولي، مشيراً إلى أنه من غير المتوقع أن تقوم واشنطن بتجميدها كلية بعد ثبات فاعليتها، وقال "تخفيف العقوبات على إيران في وقت مبكر سيكون هامشياً ومحدوداً، والعقوبات الرئيسية على النفط والمعاملات المصرفية ستظل كما هي إلى حين التوصل إلى اتفاق شامل". واستدرك في مقال على موقع المعهد بشبكة الإنترنت بإبداء قلقه من احتمال أن تكسر بعض الدول الحظر المفروض على إيران، مشيراً إلى أن تعليق بعض بنوده قد يضعف البنود الأخرى ويقلل من فاعليتها، وأضاف "هذا وعد لا يمكن أن تضمنه أي إدارة أميركية. فلا يمكن للمرء أن يتنبأ كيف أن الدول الأخرى، وبعضها متعطش للتعامل التجاري مع إيران، سوف تستجيب للصورة التي سيخلقها اتفاق "الخطوة الأولى"، لكن ليس من باب الوهم والخيال أن نشير إلى أن نظام العقوبات قد يبدأ في التآكل بمجرد التوصل إلى اتفاق مرحلي. وهذا يؤكد حكمة المطالبة بأكبر قدر ممكن من التنازلات في "الخطوة الأولى" - أي وقف محطة أراك - ومواجهة صورة تآكل العقوبات من خلال تقديم أدلة ملموسة لإيران على أنها ستصبح أكثر إحكاماً وأكثر إيلاماً".

ووجه ستالوف انتقادات إلى الاتفاق، مشيراً إلى أنه كان من الممكن تحقيق مكاسب أكبر من التي تحققت، وقال "الاتفاق سوف يضع، في حده الأقصى، حداً لتقدم الجمهورية الإسلامية في تطوير برنامجها النووي، دون أي تراجع عن قدرات إيران لتخصيب اليورانيوم، وعدم الالتزام بتجميد عمل محطة أراك المثيرة للقلق، التي يمكن أن توفر مساراً بديلاً لامتلاك سلاح نووي قائم على البلوتونيوم".

دوافع شخصية


أما المحلل السياسي السوداني البروفيسور محمد الحسن الأمين فيرى أن الاتفاق الذي تم توقيعه مؤخراً بين إيران ومجموعة 5+1 غلب عليه "الطابع الشخصي"، وقال في تصريحات إلى "الوطن" "الرئيس الأميركي يريد أن يحقق في دورته الرئاسية الثانية إنجازاً يوازي اغتيال بن لادن الذي تم في أواخر الفترة الأولى. وبعد تعثر مساعي السلام في الشرق الأوسط بسبب التعنت الإسرائيلي وإصرار نتنياهو على الاستمرار في المخططات الاستيطانية التوسعية، لم يجد أمامه سوى الملف النووي الإيراني. وقد تلاقت رغبته مع رغبات أطراف أخرى في تحقيق هذا الهدف، فمسؤولة الاتحاد الأوروبي كاثرين أشتون التي كانت أحرص الأطراف على التوصل إلى هذا الاتفاق كانت تبحث لنفسها أيضاً عن مجد شخصي. وقد تجلى هذا بوضوح في فرحتها الغامرة بعد توقيع الاتفاق، رغم أنه اتفاق أولي لم يكتب نهاية لذلك الملف الذي أقلق العالم أجمع". واسترسل قائلاً "النظام الإيراني بدوره كان يريد فرصة لاستجماع أنفاسه وضخ المزيد من الحيوية في اقتصاده الذي تدهور بصورة مريعة بسبب العقوبات الاقتصادية التي فرضتها عليه الولايات المتحدة، وخوفه من عقوبات إضافية تضاعف من أزماته، لذلك كان يبحث عن اتفاق موقت يمنحه فرصة من الوقت كي يواصل مشروعه المثير للجدل، وإن كان بوتيرة أقل سرعة، ولاسيما بعد ورود معلومات شبه مؤكدة من جهات متخصصة بأن طهران لا تحتاج سوى بضعة أشهر حتى تكمل مشروعها النووي".

سطوة المرشد


وعن نجاح الرئيس روحاني بموازاة تعنت سلفه نجاد، قال "كلا الرجلين لا يملك من مقاليد الأمور ما يخوله لاتخاذ القرار النهائي الذي يحتكره المرشد الأعلى خامنئي وحده. وقد استجاب الأخير لنصائح بعض مستشاريه الذين طالبوه بإبداء بعض المرونة حيال هذا الملف حتى يهدئ من مخاوف الرأي العام العالمي، وفي نفس الوقت يكمل مشروعه في هدوء. أما التخلي عن الحلم النووي نهائياً فهذا أمر مستبعد تماماً، ولاسيما إذا أخذنا في الاعتبار أن طهران أنفقت في سبيله مئات المليارات من الدولارات، إضافة إلى الأضرار البالغة التي لحقت بصناعتها وتجارتها بسبب الحصار والعقوبات. فلا يستقيم أن تتنازل عن كل ذلك مقابل حفنة من المليارات وإلغاء بعض العقوبات والإفراج عن بعض أرصدتها المجمدة".

ووصف الأمين المخاوف العربية من المشروع الإيراني بأنها "مشروعة"، وقال "من حق الدول الخليجية خاصة والعربية عامة إبداء تخوفها من هذا البرنامج، ولاسيما بعد أن أظهرت طهران نزعة هيمنة وتوسع في المنطقة، وتجلى ذلك في تدخلها الصريح في شؤون البحرين واليمن ولبنان، إضافة إلى دعمها الصريح لنظام الطاغية بشار الأسد بالأموال والأسلحة والمقاتلين، واحتلالها للجزر الإماراتية الثلاث، وسعيها المستمر لإحداث بلبلة وحالة عدم استقرار في سائر الدول العربية".

مكاسب مشتركة


وبدوره، يقول عضو اللجنة العليا للطاقة الذرية المصرية، وزير الكهرباء الأسبق، الدكتور علي الصعيدي إن الاتفاق بصورته الحالية مرض بعض الشيء للطرفين. وأضاف لـ "الوطن" "التوصل لهذا الاتفاق مؤخراً كان نتاجاً لصراع طويل بين الطرفين منذ عام 2003. وهذا الصراع تكبدت خلاله كل الأطراف خسائر فادحة، رغم العقوبات التي فرضت على طهران، وما كان هنا إلا أن تتحدث لغة المصالح، فكلا الطرفين، إيران والغرب، خرجا من هذا الاتفاق بمكاسب كبيرة. وفترة الجمود التي سيطرت على هذا الملف طوال السنوات الماضية، كانت لها نتائج سلبية على الطرفين، ومن ثم، ومع تغيير القيادة في إيران، تم فتح الملف مؤخراً، ومن ثم التوصل لاتفاق مبدئي وليس لاتفاق نهائي، حيث إن هناك فترة تمتد إلى 6 أشهر للتأكد من حسن نوايا إيران. وبموجب الاتفاق حصلت إيران على تعهد من المجتمع الدولي بأحقيتها في تخصيب اليورانيوم حتى وإن كان بحد أقصى بنسبة 5% وهو ما يحقق برنامجها السلمي، فيما سيتمكن الغرب من مراقبة عملية التخصيب، خاصة فيما يتعلق بمراقبة عملية "الماء الثقيل"، المستخدمة في السلاح النووي".

وتوقع الصعيدي أن يلي هذا الاتفاق دور أكبر لإيران في المنطقة، وسماح الغرب لها بزيادة نفوذها، الأمر الذي سيقلق بالضرورة دول الخليج، متوقعاً في الوقت نفسه ألا تنحاز أميركا بثقلها إلى إيران على حساب دول الخليج، وهو ما قد ستسفر عنه الأيام المقبلة. وأكد أن إيران تحاول بكل الطرق إيجاد دور مؤثر لها في المنطقة، ونرى دورها في سورية ولبنان واليمن وحتى في غزة، وتريد إيران توسيع نطاق نفوذها لأكثر من ذلك، وهو ما قد يتحقق من وراء قبولها بالاتفاق الأخير مع الغرب فيما يتعلق بملفها النووي.

استغلال الفرصة


بالمقابل يؤكد الخبير الاستراتيجي العسكري المصري اللواء حسام سويلم، أن إيران استغلت بحرفية الظروف التي يمر بها العالم، خاصة في ظل تراجع الدور الأميركي وتنامي الدور الروسي، وتراجع السيطرة الأميركية على بعض دول منطقة الشرق الأوسط. وقال في تصريحات إلى "الوطن" "الرئيس الإيراني الجديد فتح الملف بقوة.. الذي يجمع كل الخيوط في يده الآن، بعكس الرئيس السابق أحمدي نجاد، ليحقق تقدماً في الملف النووي الإيراني". وأضاف سويلم أن الاتفاق الأخير بين إيران والغرب له أهداف كثيرة ومكاسب لكلا الطرفين، وإن كان الهدف الأساسي لإيران هو توسيع رقعة نفوذها في المنطقة، وسماح الغرب لها بتنفيذ ذلك في مقابل التوصل لاتفاق في الملف النووي الذي أرهق العالم طوال السنوات الماضية، لذلك فمن المتوقع أن تساعد الدول الغربية إيران على تحقيق هذا الهدف، وهو ما بدا واضحاً بقوة بعدما دعت الدول الغربية إيران لحضور اجتماعات "جنيف2"، بشأن سورية، وهو اعتراف ضمني بالدور الإيراني في المنطقة.