قبل أسبوعين، سُئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، عن صحة مقارنة قيادة المرأة للراحلة بقيادتها للسيارة؟ ومن موقفه المسبق في عدم جواز قيادة المرأة للسيارة كان جوابه التالي: الركوب على الراحلة ما فيه خطر ولا تترتب عليه مفاسد. خلاف قيادة المرأة للسيارة ففيها مفاسد ومحاذير خطيرة، لذلك تمنع منها. المرأة إذا ملكت سيارة صارت تذهب لما شاءت في ليل أو نهار، معها مفتاح سيارتها لا أحد يمنعها وليس للرجل عليها سلطة. وقد يتصل بها فاجر أو فاسق يواعدها، تأخذ مفتاح السيارة وتشغلها وتروح "يم" الموعد، لأنها أخذت حريتها. جواب الشيخ أحدث ردة فعل غاضبة لدى كثير من النساء، حتى اللواتي لا يحبذن قيادة السيارة؛ لكونه، كما فهمنه، قد وضع المرأة في موضع شبهة وريبة وعدم القدرة على فرز ما ينفعها في دينها وعفتها من عدمه. وبأن ما يحفظ شرفها ودينها وعفتها، هو مفتاح سيارة لا غير أو غياب سلطة رجل عليها!!

لا أحد يشك في صلاح نية فضيلة الشيخ صالح وحرصه على سلامة المجتمع بشكل عام وعلى المرأة بشكل خاص، ينطلق في ذلك من موقعه كعالم دين جليل له مكانته العلمية المرموقة فيه. ولكن صيغة جوابه عن السؤال "المفخخ"، لم تخدم الفكرة التي أراد توصيلها عن حسن نية، للمجتمع وللنساء بالتحديد. وأعتقد بأن فضيلة الشيخ لا يقصد كل النساء في عدم قدرتهن على حماية أنفسهن في ظل وجود مفاتيح السيارات في حقائبهن اليدوية. ولكن تحديده لصيغة المرأة المفردة في جوابه؛ جعلت من استمع إليه يعتقد بأنه يقصد كل امرأة، أي التعميم على النساء. وإذا كان رأيه لا يعم كل النساء؛ إذاً فلماذا يحمل بعضهن وزر بعض وهذا لا يتفق مع الآية الكريمة: (ولا تزر وازرة وزر أخرى). وإذا كان يقصد في جوابه التعميم؛ فالتعميم على نصف المجتمع، ليس من صفات العلماء، أمثال فضيلته.

فضيلته ـ حفظه الله ـ لم يورد أي نص شرعي يبني عليه حرصه على منع المرأة من امتلاك مفاتيح السيارة؛ وإنما استند على قاعدة سد الذرائع الفقهية. ولكن أليس من الأجدى بأن يطلق مثل حكم المنع هذا على قيادة المراهقين من أعمار 13 - 17 عاما؛ لكون المفسدة فيها واضحة وملموسة. حيث إن كثيرا من المراهقين في هذا السن، عندما يحملون في جيوبهم مفاتيح السيارات؛ تكون مدعاة لهم في التحرك بعيداً عن مراقبة الرجل "ولي الأمر"، إلى البراري والاستراحات القصية وهذا مدعاة للفساد الأكيد. ومدعاة لمقابلتهم مروجي المخدرات والمسكرات ومطاردة ومضايقة العوائل في سياراتهم الخاصة. وكذلك مدعاة لتغريرهم بالمراهقات وأخذهن معهم بالسيارات. هذا عدا تهورهم في السرعة وتسببهم في معظم الحوادث داخل المدن وعلى الطرقات السريعة؛ وإزهاقهم لأرواح الأبرياء وأرواحهم، ناهيك عن الإصابات والإعاقات الدائمة التي يتسببون بها لهم ولغيرهم. وما ظاهرة تفحيط المراهقين بالسيارات بخفية؛ حيث تسببوا في إرباك النظام وإزهاق الأرواح وإتلاف الممتلكات.

وقد خرجت قبل سنة فتوى من فضيلة الشيخ، صالح بن محمد اللحيدان، عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء؛ أكد فيها على عدم جواز حضور المرأة للمهرجانات الثقافية والتراثية"، وحتى لو كانت امرأة كبيرة في السن؛ مع كون المسنات من النساء "القواعد" لهن في الفقه حكم خاص في مسألة مقابلة الرجال. إذاً فلماذا دوماً يفتح باب سد الذرائع على مصراعيه، عندما تتعلق المسألة بالإناث وحتى الناضجات منهن عمراً وعلماً وديناً وحسب حالات ظنية غير مؤكدة؛ ويغلق بمصراعيه، عندما تتعلق المسائل بالذكور وحتى المراهقين منهم؛ وحسب حالات شبه مؤكدة؟!

الجواب عن السؤال؛ يكمن، كما أزعم، في فقه البلدات النجدية ما قبل النفط؛ والذي تم نظمه وصياغته ليتماشى مع المعطى الاقتصادي الفقير والمتواضع للبلدات حينها، ويؤكد تنظيم وتأطير حياتها المعيشية البسيطة حينها. وكما ذكرت في مقاليّ السابقين، بأنه يتم نظم القيم والمفاهيم العقدية بطريقة تخدم أسلوب الحياة المعيشية اليومية لأي مجتمع. ويتم تنظيم وترتيب أسلوب المعيشة الحياتية على حسب مقاس المعطى الاقتصادي المتاح للمجتمع. وعليه يتم تشكيل منظومة قيم ومفاهيم أخلاقية واجتماعية تنظم العلاقات التفاعلية بين فئات المجتمع. وعليه تزداد قيمة الفئة الفاعلة في المجتمع من عدمه، على حسب تحكمها وإدارتها لمخزون ومنتوج المعطى الاقتصادي.

كان المعطى الاقتصادي للبلدات النجدية ما قبل النفط؛ شحيحا وفقيرا، وبالكاد يكفي أهلها. وكانت البلدات تعتمد في تجارتها على كونها مركزا للتبادل التجاري بين القرى الزراعية وسكان البادية. أي تشتري البلدات المنتوج الزراعي من القرى الزراعية والمنتوج الحيواني من البدو وتبيع ما يحتاجه البدو من المحصول الزراعي وتبيع المنتج الحيواني على الفلاحين. وتبيع على كليهما منتجاتها الحرفية من أدوات منزلية وآليات فلاحية.

أي أن نمط العمل في البلدات هو التبادل التجاري والعمل الحرفي اليدوي. ولذلك فالمرأة ليست فاعلة في هذين النشاطين التجاريين؛ وعليه توقفت قيمتها في خدمة الرجل "المنتج" في البيت. فدورها الفاعل في عملية الإنتاج في البلدة النجدية ما قبل النفط كان غير مباشر؛ وذلك من خلال خدمة الرجل وأولاده في البيت وإنجاب الأطفال له. وبالنسبة للرجل المنتج وحتى لأولاده؛ يعد خروج المرأة من بيتها خللا كبيرا وإرباكا لأسلوب معيشتهم الحياتية اليومية؛ فالرجل يعمل في متجره من الصباح باكراً وحتى مغيب الشمس. وعندما يعود من متجره؛ ينتظر بأن يجد غداءه وعشاءه جاهزاً له ولأولاده؛ حتى إنه في بعض حالات يأتي بضيوف معه من خارج البلدة ممن يتعاملون معه تجارياً. وعلى هذا الأساس ففي حال لم يجد الرجل زوجته في البيت بكامل استعدادها؛ سيعد ذلك عدوانا على أسلوب حياته المعيشية اليومية.

ونمط أسلوب حياة البلدات المعيشية كان يعتمد على الرجل وأولاده؛ وفي حال لم توفر له زوجته العدد الكافي من الذكور؛ يتزوج بأكثر من واحدة. وعلى هذا الأساس تمت صياغة فقه البلدات تجاه المرأة، من أجل خدمة أسلوب البلدات المعيشي اليومي؛ حسب معطاها الاقتصادي الفقير.

البدوية في نجد ترعى في البر، والفلاحة تعمل في الحقل؛ أما الحضرية فمكانها البيت. ولذلك فالبدوية والفلاحة تقودان سيارتيهما الآن من دون عائق ديني أو أخلاقي. أما الحضرية فمقرها، - حسب فقه البلدات النجدية - البيت؛ ولذلك فقيادتها للسيارة أمامها ألف عائق ديني وقانوني وأخلاقي. هذا برغم تحول البلدات النجدية لمدن كبيرة مزدهرة؛ وعليه تحول نمطها المعيشي الحياتي اليومي رأساً على عقب. وهذا جراء حكم الماضي على الحاضر؛ بدون وعي وإدراك لمتغيرات المعطى الاقتصادي.