مجموعة من "البشر" أتاحت لهم التقنية المتطورة إمكانية حمل جهاز هاتف نقال في أيديهم ليعبثوا به فرحين بخدماته وسرعته، وجودته.
هذه القطعة الصغيرة اختصرت المسافات، وأتاحت لهم فرصة التواصل مع الآخرين ومشاركتهم، والاطلاع على جميل ما يصنعون ويبدعون وأحسن ما يقولون، وفتحوا لهم نافذة على معظم ما في هذا العالم دون حدود ودون رقيب ودون عقبات، لكنهم تركوا كل جميل وكل مفيد واختاروا ما يتناسب مع معدنهم غير الأصيل، وما يوافق فكرهم غير السوي وبسرعة لا يضاهيهم فيها أحد، أتقنوا آلية الإرسال والنشر للفرد والجماعات بالصوت والصورة والفيديو، وباتوا محترفين فيما فيه بث ونشر للشر والفتنة والفضائح، ظنا منهم أنهم يحسنون صنعا، وأنهم يسجلون حضورا لافتا لهم عند معارفهم وأصدقائهم وزملاء العمل وغيرهم ممن يعرفون.
كتبت هنا ذات مرة عن شبكات التواصل الاجتماعي الجديدة، وكيف أثرت إيجابا في حياتنا، وكتبت كيف أنني شخصيا أخذت بالكثير من المعلومات والنصائح التي تصلني عبر الـ"واتس آب" وشعرت أنني قادر على تغيير أشياء كثيرة في حياتي نحو الأحسن.
في الأيام القليلة الماضية كنت أسأل ما إذا كانت هذه التقنية تتيح لي التخلص من أرقام العديد من الناس، ممن يبعثون لنا بما لا ينبغي رؤيته أو المشاركة في نشره وتعميمه؛ لأنهم بصدق أناس لا "يستحون على وجوههم"، ولا في قلبهم ذرة حس أو مشاعر، فعلاقتهم بنشر كل ما يأتيهم على أجهزة هواتفهم علاقة وطيدة ومتأصلة، وتحسدهم على نشاطهم هذا وعلى دقتهم وانضباطهم وسرعتهم في أداء المهمة التي يقومون بها دون ملل أوكلل ليلا ونهارا، وتعجب من حجم نشاطهم هذا إلى الحد الذي تتمنى لو أنهم كانوا كذلك في أعمالهم وفي تدبير بقية شؤون حياتهم!
وأنا أكتب لكم هنا عن بلوى نشر الفضائح والتشهير بالناس عبر تقنية الجوال، وصلتني رسالة عبر الـ"واتس اب" تتضمن شيئا مهما مما أنا عاكف على كتابته فوددت أن أنقلها لكم بتصرف بسيط، والأجر إن شاء الله لكاتبها أو كاتبتها:
"شاهد فضيحة فتاة في أحد الفنادق، شاهد شابا مسحورا يصرخ وينادي معشوقته في المطار، شاهد رجلا يصور حبيبته في الدولة الفلانية، شاهد رجلا يغازل فتاة في أحد المجمعات التجارية، شاهد وشاهد وشاهد"، فهكذا باتت ثقافة بعضنا قائمة على ثلاث كلمات "التقط، شاهد، اُنشر".
أصبحت ثقافة الستر معدومة ولا تكاد تذكر، وبتنا نبرر لأنفسنا نشر فضائح الناس تحت ذريعة أخذ العظة والعبرة، لكن لو كان هذا المقطع أو تلك الصورة أو تلك القصة لقريب أو صديق لما أحببنا نشرها بل حاربنا من أجل عدم نشرها وحينها لن يكون لمبرر العبرة والعظة مكان في قاموسنا!
من منا لا يخطئ؟
فكلنا ذلك العبد الذي يذنب، فلا تهتك ستر أحد، ولا تتشمت بصنيع شخص ما، فليس بينك وبين هؤلاء إلا رحمة الله بك، والقلوب يقلبها الله كيف يشاء والأعمال بالخواتيم.