معروف أن أي ديموقراطية لا تتم من دون وجود دستور ينظم الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويحدد المسؤولية في مؤسسات الدولة، ولهذا فإن بذور العملية الدستورية في تركيا قد بدأت في أواخر عصر الدولة العثمانية في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، نتيجة ظروف ومتغيرات عدة، وفي عصر الجمهورية التركية التي أسسها مصطفى كمال (أتاتورك) عام 1923، يؤكد الدستور التركي في مادته الثانية أن "جمهورية تركيا دولة ديموقراطية علمانية اجتماعية تحكمها سيادة القانون"، وتنص المادة الرابعة من الدستور أنه لا يجوز تعديل أحكام المواد (1، 2، 3)، وقد رفضت الأحزاب القومية التركية الكبرى في نقاشاتها العام المنصرم حول التعديلات الدستورية المساس بالمواد الثلاث الأولى، التي يحاول حزب العدالة والتنمية (الإسلامي) تعديلها.

وقد شهدت الجمهورية التركية تطورات غير مسبوقة على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي منذ تولي "العدالة والتنمية" زمام الأمور في السلطات الثلاث، غير أن الواضح من خلال محاولات (تغيير) الهوية المدنية للدولة التركية تتم تدريجياً من خلال هذا الحزب الذي لا يُعرف بالضبط إلى أين سيصل بتركيا مستقبلاً.

اطلع العالم على هذه التجربة المتدرجة في التغيير، وعلى الرغم من الإعجاب الذي حظيت به هذه التجربة إلا أن وجهها الشرس بدأ ينكشف عبر تطورات الأحداث السياسية في الداخل التركي وفي الوضع الإقليمي ولا سيما في بعض الدول العربية.

ومن هذا المنطلق فإن ما اتضح من التجربة التركية (الإردوغانية) هو العزم على إحكام السيطرة على الداخل التركي والخارج الإقليمي - لا سيما عربياً - بعد أن استنزفت تركيا معظم محاولاتها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، الذي ما زالت الأدبيات الأوروبية توحي بأنه نادٍ مسيحي؛ ولذلك توجهت تركيا شرقاً خاصة إلى العالم العربي بطريقة تعيدنا إلى الحقب المظلمة لتاريخ الاستعمار العثماني، والتي نعرفها جيداً في العالم العربي، حيث لم تنته هذه الحقبة الاستعمارية إلا بسقوط الدولة العثمانية، حيث إن الجمهورية التركية (الكمالية) لم تكن تطمح للتوسع إلى أبعد من حدودها التي رُسمت بعد توقيع "معاهدة لوزان".

في الداخل التركي اليوم، تشهد السياسة التركية "هوساً" عثمانياً من خلال شخص رئيس الوزراء رجب طيب إردوغان، الذي ضرب عرض الحائط بمبادئ الجمهورية وبات يعيش حالة استلهام للسلطنة العثمانية، حتى إنه توعد خصومه السياسيين في الداخل والخارج مؤخراً بـ"الصفعة العثمانية"، بعد أن حجب بعض وسائل التواصل الاجتماعي قبيل الانتخابات البلدية التي حقق فيها حزبه فوزاً (بنسبة 46%)، غير أن المحكمة الدستورية العليا في تركيا قد ألغت قرار حظر "تويتر"، الذي يعد خرقاً لحرية التعبير، وأمرت بإعادة الخدمة للشعب التركي.

ويواجه إردوغان اليوم انتهاء ولايته، بمحاولة تعديل الدستور ليصبح رئيساً للبلاد بصلاحيات واسعة، وإن لم يستطع تحقيق هذه الأمنية فإنه سيرشح نفسه لرئاسة البلاد بالصلاحيات الحالية لرئيس الجمهورية. وباختصار: هو ما زال يعيش الهوس العثماني داخله، ولا أعرف إلى أين سيصل به الأمر؛ إذا ما حدث تغيير جذري وانضمت تركيا للاتحاد الأوروبي، فهل سيوجه صفعة إلى عثمانية وإلى الأوروبيين أيضاً، ويقوم بمنع التواصل الاجتماعي عنهم؟!

والإشكالية التي تواجه رئيس الوزراء التركي اليوم هي إشكالية إظهاره المبالغ به لنزعته "الاستعمارية العثمانية"، ورغم أن الجمهورية التركية والشعب التركي يحظيان باحترام العالم، غير أن السياسات الداخلية للحزب الحاكم جعلت تركيا في مواجهة مباشرة وحادة مع جيرانها، وهذا أمر ذو حساسية كبيرة يجب أن ينتهي، وقد كان واضحاً تحسس رئيس الوزراء التركي الحالي من النقد.

بعد أن تبدد حلمه بتبعية جمهورية مصر العربية لتركيا ضمنياً بعد ثورة 25 يناير، التي صححتها ثورة 30 يونيو، وكانت المحصلة النهائية للهوس العثماني هي رسم شعار الأصابع الأربعة.