في بعض الجهات الحكومية، ومن خلال التحقيق الجائر وفرض العقوبات الإدارية يتم التضييق على الموظفين الذين يقومون بإبلاغ الجهات الرقابية عن أية مخالفات أو تجاوزات حدثت في جهاتهم، أو إبلاغ الإعلام بتلك التجاوزات أو انتقاد مشاريع تلك الجهات، وذلك من باب إفشاء الأسرار الوظيفية، وللمبرر والحجة نفسيهما، تقوم هذه الجهات أيضاً بحجب المعلومات المطلوبة عن موظفي الرقابة ومنعهم من التحقق أو التفتيش!.
لا شك بأن عدم إفشاء أسرار العمل يعد من أهم الالتزامات الوظيفية بالنسبة للموظف الحكومي، وكذلك من أهم قواعد السلوك وأخلاقيات المهنة، فالموظف الحكومي مؤتمن على ما يطلع عليه من معلومات بحكم وظيفته، والتي ترقى أحياناً إلى أسرار يجب كتمانها، وعدم اطلاع الآخرين عليها، والتي أجمعت عليه أحكام التشريع وآراء الفقه والقضاء الإداري في جميع دول العالم، وفي المملكة فقد نصت المادة (12) الفقرة (هـ) من لائحة الواجبات الوظيفية في نظام الخدمة المدنية بأنه "يحظر على الموظف خاصة: إفشاء الأسرار التي يطلع عليها بحكم وظيفته ولو بعد تركه للخدمة"، ولكن الإشكالية هنا هي التفسير الخاطئ لمعنى السرية، والتوسع في هذا المجال في كثير من الجهات الحكومية.
ففي الوقت الذي أصبحت فيه الشفافية أحد المقومات الأساسية للحوكمة وشرطا ضروريا للتنمية المستدامة، لذا فإن الاتجاهات الحديثة في الإدارة تنظر إلى السرية في الأعمال الحكومية، على أنها استثناء، والشفافية هي القاعدة، ولكن واقع الحال يقول العكس في بعض الجهات الحكومية.
لقد أصبحت السرية هي القاعدة التي تحكم الإدارة في الجهة الحكومية، سواء في التعامل مع منسوبيها أو مع الغير، ولا أبالغ إن قلت إن التكتم على المخالفات والسرقات والاختلاس، أصبح أيضاً من الواجبات الوظيفية عند البعض للأسف الشديد!.
فهناك على سبيل المثال من يقوم بتسريب الأسعار التقديرية أو الأسعار التي يتقدم بها المتنافسون للمشاريع الحكومية، أو تسريبات تتعلق بأمور اقتصادية للاستفادة الشخصية من هذه القرارات، ومثل هؤلاء لا يتم الالتفات إليهم، بينما تقوم الدنيا ولا تقعد إن قام موظف بالتبليغ عن أوجه الفساد والتجاوزات!.
فبسبب السرية، نجمت عنها سلبيات كثيرة، منها تعثر التنمية وانتشار الفساد الإداري وضعف الرقابة على أعمال الإدارة وإهدار المال العام وانتهاك حقوق الأفراد، ومن الأمثلة التي تطرح في هذا المقام، حجز الوظائف الجديدة وبيعها مقابل رشاوى متمثلة في الحصول على أول راتب للموظف، أو نسبة من دخله، بسبب سرية إجراءات التوظيف.
كما قد تباع الترقيات، أو بيع الوظائف المهمة، بسبب سرية الإجراءات في داخل بعض الجهات الحكومية، كما قد تتم ترسية المناقصات على شركات بعينها بسبب سرية إجراءات المنافسات، بالإضافة إلى انتهاج المحاباة والواسطة والمجاملة في الحوافز وفرص التعليم والتأهيل ومهمات العمل الخارجية، والتلاعب في أوجه الخدمات وألويات تقديمها، وغير ذلك من أنواع التمييز والانحياز وفقدان الموضوعية.
وفي الوقت الذي تؤكد فيه أنظمة الخدمة المدنية على التزام الموظف الحكومي بعدم إفشاء الأسرار الوظيفية، وتعد من يخالف ذلك ارتكب مخالفة إدارية تستوجب العقاب وفق ما حدده نظام تأديب الموظفين، إلا أنها خالية من أية مواد أو نصوص تتعلق بتشجيع الموظفين على التحلي بالصدق والشجاعة والشفافية في إبداء الرأي والإفصاح عن جوانب الخلل والإبلاغ عنه مع الحرص على التأكد من المعلومات، وعد ذلك من الواجبات الوظيفية، ومن لم يلتزم بذلك يعد مخالفاً للأنظمة والقوانين.
هذا بالإضافة إلى أن مفهوم السر الوظيفي غير واضح في نظام الخدمة المدنية، ناهيك عن عدم وجود آلية واضحة في تصنيف المعلومات بأنها سرية، وترك الباب مفتوحا لكل جهة حكومية في اعتبار أو تصنيف أي معلومة بأنها سرية، وضمان التكتم عليها رغم أنه لا يوجد ما يضمن عدم إساءة استعمال هذه الصلاحية، كما أن هذه الصلاحية تتعارض مع مبادئ الشفافية والوضوح.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن سياسة المملكة تتجه نحو حصر وتضييق نطاق السرية الإدارية بحدود ما تقتضيه ضرورات حفظ النظام العام وحسن سير المرافق العامة وحماية حقوق الدولة والمواطنين، فقد نصت الفقرة (3) من البند ثالثاً من وسائل تحقيق أهداف الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد على "إقرار مبدأ الوضوح (الشفافية) وتعزيزه عن طريق ما يلي:
• التأكيد على مسؤولي الدولة بأن الوضوح وسيلة فاعلة للوقاية من الفساد، وإن اعتماده كممارسة وتوجه أخلاقي يضفي على العمل الحكومي المصداقية والاحترام.
• تسهيل الإجراءات الإدارية والتوعية بها وإتاحتها للراغبين وعدم اللجوء إلى السرية إلا فيما يتعلق بالمعلومات التي تمس السيادة والأمن الوطني.
• توضيح إجراءات عقود مشتريات الحكومة والمؤسسات العامة والشركات المساهمة، وإعطاء الجمهور والمؤسسات المدنية ووسائل الإعلام حق الاطلاع عليها ونقدها.
• كفالة حرية تداول المعلومات عن شؤون الفساد بين عامة الجمهور ووسائل الإعلام".
وتأسيساً على ما تقدم، فإن السؤال المطروح هو: كيف يمكن التوفيق بين التزام الموظف بعدم إفشاء أسرار الوظيفة العامة وحقه في التعبير عن الرأي أو توجيه النقد بأي من الوسائل المشروعة كما تضمنت ذلك الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد؟ وبعبارة أخرى هل يعد ما قام به الموظف من قبيل الشفافية في إبداء الرأي مخالفة بسبب إفشائه لأسرار الوظيفة الحكومية؟ وكيف يمكن أيضاً جعل الشفافية هي القاعدة والسرية هي الاستثناء؟.
نحن بحاجة إلى وجود أنظمة وقوانين صريحة تتعلق بتوضيح مفهوم سرية المعلومات وتصنيفها في الجهات الحكومية (محظور، سري، سري للغاية)، بالإضافة إلى تحقيق أهداف استراتيجية مكافحة الفساد سالفة الذكر، من خلال تشجيع المسؤولين والموظفين على انتهاج الشفافية والنقد وإبداء الرأي، بالإضافة إلى إيجاد آليات خاصة بكيفية تداول المعلومات وحق الاطلاع عليها.