"الحياة" تبدو أمام أعيننا وكأنها "سكة طويلة.. طويلة"، وكم تُشبه في حالها تلك الكلمات التي صبها في ذاكرتنا بصوته الشجي الفنان النبيل عبادي الجوهر، ولكنها عكس ما تبدو في كثير من الأحيان، فهي وببساطة "مجرد ومضة" تخطفنا ولا نشعر بها إلا وقد انتهت في لحظة، ونترك معها ذلك الجسد الذي طالما اهتممنا به وعالجنا جروحه وأمراضه خشية الألم، نتركه عاريا بلا قدرة على ستره! والآخرون يُقلبوننا ذات اليمين وذات الشمال، ثم يضعون لنا شيئا من الطيب المعطر، خشية رائحة "عفن" كنّا يوما "نتقزز" منها! ويغادرون بنا على قطعة خشب رخيصة جدا، بعد أن غادرنا كل أشيائنا الثمينة التي ركضنا كي نمتلكها، وتركناها دون حماية، وتصبح معها أسرارنا دوننا عارية مكشوفة وفي أيد أناس ربما يعجزون عن كتمانها، ونعجز نحن عن قولنا لهم "هذه الأسرار أمانة لديكم" ثم يتخلصون منّا ويغرسوننا في باطن الأرض كما البذور.. حيث سكان آخرون يجاورننا كنّا نخشى المرور بجوارهم ليلا.. وكائنات أخرى تكون "أجسادنا" سببا في استمرار حياتها! ونكون "ذكرى" لمن أحبونا ويحنون إلينا و"عبرة" لآخرين لا يعرفوننا!

كانت هذه الخواطر في رأسي وأنا أطالع خبر وفاة أبناء الدكتور البشري الخمسة رحمهم الله وصبّر قلب والدهم ووالدتهم، فيما تأملت حسابات بعض الأشخاص على "تويتر" غادروا الحياة وتركوا ما كتبته أيديهم أمام أعين الجميع، عاجزين عن مسح تغريدات ربما رغبوا بمسحها بعد رحيلهم، إنه شعور ندركه تماما حين نتأمل رحيل من حولنا، ربما كنّا قبل قليل نتحدث معهم أو بالأمس نمزح معهم.. وكانوا يبتسمون لنا .. يتحدثون بشغف عن أحلامهم.. رغباتهم.. وأحزانهم.. عن أناس أحبوهم وكرهوهم في الحياة، التي ما تزال تبدو لنا "سكة طويلة" لا نهاية لها بينما سراب يخفي سنّة الحياة "الموت" وهو بمثابة قانون محترم لتستمر الحياة للآخرين.

بصدق، "غدا" والموت" شيئان نقيضان وعدوان لبعضهما لكنهما لا يعرفان الكذب، فـ" غدا" آتٍ لكن قد يسبقه الثاني فلا نراه! حقيقة، ومع ذلك ولأن الرحمن سبحانه وتعالى رحيم بهذا الإنسان جعل له النسيان نعمة يحيا بها، فيتراءى له في تلك "السكة الطويلة" سراب فلا يُدرك نهاية الطريق، ورغم مشاهدتنا للموت على الشاشات الإخبارية ومروره أحيانا ببيوت جيراننا.. بعض أقاربنا.. وأصدقائنا يوميا، ونتحول معه لمشيعين ومعزيين، إلا أننا وبعد لحظات ننشغل بالحياة سريعا ونركض خلف أشياء ثمينة نسعى لامتلاكها وطموحات نردد أننا سنحققها، وننسى أن "الموت مرّ يوما من هنا" فكما الموت قانون محترم في الحياة، فإن الحياة أيضا يجب أن تكون قانونا محترما أمام الموت! وكما قال الروائي عبدالرحمن منيف: "أسهل طريقة للحياة هي النسيان" ولطالما أردد "من يرغب بالحياة حقا عليه التصالح مع الموت"! أقصد أن الحياة يجب أن نعيشها ونستمتع بها بما يعمر الأرض ويجعل حياتنا سببا كفيلا لأن يكون موتنا أيضا أمرا محترما، وامتلاك "زاد" يعيننا على السير في "سكة طويلة" أخرى تنتظرنا هناك.. حيث "الحياة للحياة".